لطفية الدليمي
لاتغيبُ عن بالي أبداً تلك العبارة التي كتبها الروائي الراحل (نجيب محفوظ) في روايته التي صارت فلماً (الحب فوق هضبة الهرم). مفادُ العبارة أنّ المرء يحتاجُ طاقة عظمى لكي يديم عيشه الآدمي – على المستويين الانساني والنفسي – وسط بيئة لاتستطيع حتى (الشياطين الزرق) العيش فيها.
هذا ماكتبه محفوظ عن بيئته المصرية أيام حملة التبشير الحكومية الصاخبة بفضائل السوق المفتوحة. ماعساه كان سيكتب عن العراق لو تسنّى له معرفة البعض – البعض القليل فحسب - من التفاصيل المخزية لجائحة الفساد.
أظنُّ أنّ أوّل إشارة يختزنها ذهني إلى إمكانية أن يختنق المرء بحياته هي عبارة وردت في تقديم المترجم لكتاب عن حياة (فريدريك إنغلز). العبارة تقول (المرء ثمّة يختنق) توصيفاً لمكابدة إنغلز في أوّل أطوار حياته. راقت لي العبارة كثيراً وبخاصة ذلك الاستخدام البلاغي في دخول (ثمّة) على فعلٍ بدلاً من إسم. يكادُ المرء يختنق من حجم الرثاثة في الحياة العراقية الراهنة – تلك الرثاثة التي جاوزت كلّ السقوف المتوقّعة. صار العيش في العراق تمريناً يومياً على البطولة شئته أم لم تشأه. لستُ أقصدُ هنا ذلك النمط البطولي الكامن في النظرة النيتشوية للحياة. ستواجهك في الحياة مآسٍ كثيرة: مرضٌ وتعب ومشقات وأعطابٌ في البدن وانكسارات في الروح وانكفاءات في قدرة الذهن؛ لكنك برغم كلّ هذا تقبلُ العيش؛ بل لن ترضى الاغلبية من البشر بالعيش المجرّد المكتفي بالحاجات البيولوجية البدائية وإنّما تظلُّ تتطلّعُ لسقوف عالية من الانجاز وتحقيق الذات. أليست هذه بطولة؟ لاتكمن البطولة في الحياة العراقية في هذا السياق النيتشوي؛ بل ثمّة بطولة من نوعٍ آخر: القدرة على إستدامة العمل وسط الخراب في بيئةٍ كلُّ (ما) و (مَنْ) فيها يدفعك للنكوص واليأس والركون إلى مواضع الراحة وترك الساحة لعبث العابثين. ليس مِنْ معينٍ لك لو أردتَ العمل في أيّ منشط ثقافي سوى ذاتك وإرادتك الفولاذية ودعم ومؤازرة قلّة قليلة ممّن يشاطرونك إنشغالاتك الثقافية.
كتبتُ غير مرّة عن الدكتورة (لاهاي عبد الحسين)، الاستاذة المتمرّسة في علم الاجتماع، والناشطة ثقافياً ومجتمعياً. بعد أن تقاعَدَتْ من العمل الاكاديمي كان في مستطاعها الركونُ إلى السكينة؛ لكنّ المتابعين لها يعرفون أنها لم تفعلْ. أعرفُ تماماً أنها تنتمي إلى الجيل الجامعي الذي يعرف الدور التنويري والتثويري للجامعة؛ لكنها إنخذلت في سنواتها الاكاديمية الاخيرة لفرط ماشهدت من نكوص ورثاثة في التعليم الجامعي. صارت الجامعة العراقية أقرب إلى ملاذات وظيفية يتقاتل عليها الباحثون عن إمتيازاتها المالية دونما حسابٍ لأية نتائج عملية أو ميزة أكاديمية حقيقية. سمعنا - ولم نزل نسمع – الكثير من المثالب المعيبة التي تكتنف الحياة الاكاديمية العراقية في وقتنا الحاضر، وأوقنُ أنّ كلّ باحث عن الاصالة البحثية والبصمة الاكاديمية المميزة لكبريات الجامعات العالمية لابدّ أن يختنق في بيئة كهذه.
غادرت الدكتورة لاهاي الوسط الجامعي العراقي؛ لكنّها نشطت في محافل ومنتديات ولقاءات ثقافية عامة. كان (منتدى الثقافة النسوية) أحد التشكّلات الثقافية التي رأسته الدكتورة لاهاي تحت مظلّة الاتحاد العام للادباء والكُتّاب في العراق. دأب هذا المنتدى على إصدار كتابٍ نصف سنوي عنه. سأتناول في السطور التالية الاصدار الثالث من الكتاب والذي تسنّت لي قراءته.
كلّ من إطّلع على الكتب نصف السنوية لمنتدى الثقافة النسوية سيتحسّسُ الجهد الكبير الذي تحمّلته الدكتورة لاهاي طواعية. أوّلُ المعضلات يكمنُ في طبيعة الكتاب: هل تريده أقرب إلى مجلة تتبعُ نمط المجلات الاكاديمية المنصاعة لنظام وسياق النشر الاكاديمي؛ أم تريده مطبوعاً متخففاً من تلك السياقات لأنك تخاطبُ به جمهرة واسعة من القراء؟ إلتمست الدكتورة لاهاي وبذكاء لافت، طريقاً هو بين هذا وذاك: إختارت أن تكون بعض المواد الأساسية Leading Articles في الكتاب خاضعة لضوابط النشر الاكاديمي المعتمَدَة في المطبوعات الرصينة، بعد ذلك يمكن ممارسة شيء من التخفف الاكاديمي في مواد تتنوّع بين حواريات وترجمات وعروض كتب ومتابعة أحدث الاصدارات التي نشرتها نساء، وكذلك تناول كتابات تعريفية ببعض النساء المتميزات أكاديمياً وفي غير الحقل الاكاديمي. أعجبتني هذه التوليفة بين مواد بحثية تتراوح بين 6000 و 8000 كلمة، وأخرى مترجمة أو غير مترجمة تتراوح بين 2000 و 3000 كلمة.
أعرفُ معضلة أن تكون رئيس تحرير مطبوعة في العراق، وبخاصة بعد عام 2003. عملتُ لفترة وجيزة بعد 2003 رئيسة لمركز (شبعاد) المختص بدراسات حرية المرأة وأصدرنا كتبا تختص بموضوعة المرأة، كما عملت رئيسة تحرير مجلة (هلا) الثقافية. ستضطرُّ وأنت رئيس تحرير أن توظّف علاقاتك الشخصية لتحصل على مواد صالحة للنشر. ليست لدينا في العراق تقاليد عمل وظيفية رصينة. هذه حقيقة نعرفها، وفوق هذا أنت تعمل من غير إمكانيات مالية أو لوجستية وتشهدُ بأم عينيك أنّ كثرة من الناس يطيب لها المكوث في (المناطق الآمنة) من غير عمل أو معاناة وكأنهم يتطلّعون إلى رؤيتك تغوص في قعر بحر عميق حتى تغرق!! هكذا هم بعض الشخوص في هذا العالم: لايفعلون شيئاً، ويتلذّذون برؤية الآخرين يغرقون.
لو أردتَ توجيه سهام النقد فلن تلقى عنتاً في إختلاق ألف سبب وسبب. ثمّة مايمكن قوله بشأن إخراج الكتاب وطبيعة مواده. كلّ هذا ممكنٌ وسيكون عنصر دعمٍ ومؤازرة لو خرج من قلب محب لاينطوي على سوء نيّة مسبّقة. العمل في إطار منتدى تحت مظلّة إتحاد الادباء والكتّاب في العراق هو حفرٌ في الصخر الصوان. كلنا نعرفُ أنّ هذا الاتحاد ليس (محبوباً) أو موضع (أعطيات وهبات ومكرُمات) من أطراف حكومية كثيرة لأسباب تاريخية تختصُّ بطبيعة الشخوص الذين ساهموا في تأسيسه. هذا بعضُ المفاعيل السيئة للذاكرة السياسية العراقية التي تقدّم ضواغط الآيديولوجيا على بناء مؤسسات ذات تقاليد عمل راسخة ومستقلة عن السياسات الحكومية المنقادة للسطوة الحزبية.
عندما نعرفُ بواطن الامور وخفايا العمل المُتعِبة سندركُ قيمة أن يضحّي المرء بوقته وجهده طلباً لشرف الانجاز وتقديم خدمة مجانية للمستهدفين بهذا الكتاب: النساء أولاً، ثمّ كلّ الباحثين والمهتمّين بشأن الدراسات النسوية وحقوق النساء معاً. الدراسات التنظيرية النسوية مهمة لكنها ستبدو إنشغالاً نَزَوياً في الأعالي الاكاديمية وسط بيئة تعاني معضلات لاحصر لها على صعيد الزواج والطلاق والعنف وعمل النساء،،، ،، إلخ. لابدّ من مزاوجة محسوبة بين مفاهيم النسوية وحقوق النساء إذ ليس من جهة مؤسساتية سوى هذا المنتدى تعنى بحقوق النساء. هل ثمّة وزارة للمرأة في العراق؟ أظنها ألغِيت لأنّ المسؤولين وجدوا في تكاليفها عبئاً مالياً أرادوا إستباحته في لعبة إقتسام الكعكة العراقية.
ليس من المروءة المكوثُ على الشواطئ الآمنة حيث اللاعمل هو الخيار الأوحد. إفعلْ (أو إفعلي) شيئاً، وأشدّدُ على (إفعلي) لأنّ الكتاب يتوجّه لتمكين النساء. أكتبي – أيتها المرأة العراقية - مادة رصينة وساهمي بها في إثراء الكتاب. ترجمي مادة يمكن أن تثري واقع المرأة العراقية. حاوري أو أكتبي عرضاً لكتاب حديث يختصُّ بشؤون المرأة. إفعلي شيئاً بدل التشكّي والتأفّف. الشكوى مظلمة للنفس والآخرين، وخذلانُ من يسعى لخدمتك مظلمة أكبر وأعظم.