ماثيو كريسون *
ترجمة :عدوية الهلالي
على الرغم من النجاحات التي لا حصر لها والتي كانت مسؤولة عنها (اقتصادية ، تكنولوجية ، صحية ، إلخ) لأكثر من قرنين من الزمان ، يبدو أن الليبرالية باتت مكروهة أكثر من أي وقت مضى في العالم بشكل عام ، وفي فرنسا بشكل خاص.لماذا ؟
لاتزال الليبرالية التي تعرضت للإيذاء في نهاية التسعينيات من قبل "المناهضين" أو "العولمة البديلة" ،محل نزاع وحتى مرفوضة في عصرنا.وقد بدأ ذلك بشدة خلال الازمة الاقتصادية لعامي 2008-2009 ثم تكرر ذلك خلال أزمة كوفيد ،فالليبرالية اليوم مكروهة عالميًا لدرجة أن المزيد والمزيد من الليبراليين قد نبذوها ، على الأقل جزئيًا .واليوم ،يحدثنا غاي سورمان عن "ما بعد الليبرالية" ، ويعتقد فرانسيس فوكوياما ، من جانبه ، بأن "الليبرالية الجديدة" لفريدريك هايك أو ميلتون فريدمان محكوم عليها بالاختفاء.
وهذه الظاهرة ، التي يمكن ملاحظتها على نطاق كوكبي ، من انعدام الثقة المتزايد في الليبرالية ، قوبلت بصدى إيجابي بشكل خاص في فرنسا. كما يذكر أليكسيس كاركلينز-مارشاي في كتابه الأخير (من أجل باريس)قائلا: "إن مصطلح الليبرالية أصبح إهانة ، سواء على اليسار أو اليمين ".ويضيف "أن الليبرالية (لسوء الحظ ولسبب وجيه) أصبحت لعنة السياسيين من جميع المعتقدات: القوميون والاشتراكيون وعلماء البيئة ، إلخ. كما إن السياسي الذي يصف نفسه بأنه ليبرالي يقضي فجأة على فرصه في أن يُنتخب ".
يمكننا أن نعتبر أن هذا الوضع يعكس بشكل عام سمعة الليبرالية في فرنسا. ووفقًا لمسح أجراه معهد الدراسات الفرنسي في عام 2023 ،رأى 70٪ من المواطنين ذلك بشكل إيجابي في عام 1999 ، بينما كانوا 50٪ فقط في عام 2023. بالإضافة إلى ذلك ، يرغب 46٪ من الفرنسيين في تأييد دورالدولة ،بينما يعتقد 50% أن على الدولة أن تحمي المواطنين اجتماعيًا بشكل أكبر.
وفي نفس الكتاب، في الفصل المعنون"الخطايا السبع المميتة لليبرالية" يحاول الكسيس كارلينزمارشاي ، الجمع بين الانتقادات الرئيسية لليبرالية ، بما في ذلك: الفردية والمنطق المالي والأولوية المعطاة لربحية المساهمين ، والاستهلاكية ، أو تفاقم عدم المساواة.ويعترف مارشاي بأن بعض هذه الانتقادات تكون أحيانًا مبسطة إلى حد ما أو مضللة. ولكن بدلاً من محاولة دحض الحجج المغلوطة التي تحتويها ، وبدلاً من محاولة إقناع القارئ المعادي مسبقًا لفوائد الليبرالية ، بما في ذلك بالنسبة لأكبر عدد من الناس ، يفضل مارشاي جعلها قابلة للتقديم من خلال الدعوة إلى تجديدها. فمن الداخل،على حد قوله،عليها اليوم أن تراقب الانتقادات الموجهة إليها وتتجنبها، وإلا فسيكون محكوم عليها بالزوال.
وتسعى المؤسسات الليبرالية إلى القيام بالعكس تمامًا بينما تسعى بعضها جاهدة للانطلاق من هذه الانتقادات لدحضها واحدة تلو الأخر.فلنأخذ الفردية على سبيل المثال: وهي مفهوم غالبًا ما يكرهه المواطنون في بلدنا ، لأننا نجده تلقائيًا في الأنانية أو النرجسية. وكما أظهر الفيلسوف آلان لوران باستمرار في كتبه ومقالاته ، فإن الفردية تهتم بالنفس بالمعنى الجيد للمصطلح ، والذي لا يستبعد بأي حال من الأحوال الاهتمام بالآخرين. إنها إمكانية بناء المرء لوجوده ، وتحمل المسؤولية دون قياس تأثير قرارات المرء الشخصية على المجتمع .
وفي مايخص المنطق المالي وربحية المساهم ،فدعونا لا ننسى أن القدرة التنافسية للشركات- مدعومة بالبحث المستمر عن إرضاء العملاء واحتمال تحقيق عوائد للمساهمين - هي التي جعلت من الممكن خلق الكثير من الثروة والوظائف منذ بداية الرأسمالية الحديثة. علاوة على ذلك ، لماذا تريد الليبرالية دائمًا تقسيم المجتمع إلى عشائر (حملة الأسهم ضد العمال )على سبيل المثال، فيما نرى ان المجتمع الحر هو مجتمع الجهات الفاعلة التي تعتمد إلى حد كبير على بعضها البعض. علاوة على ذلك ، لا ينتمي المساهم إلى أية طبقة ذات امتياز: ويمكن لأي شخص أن يصبح مساهمًا اليوم ، على عكس ما اعتقده ماركس.
أما بالنسبة للزيادة في عدم المساواة ، فقد كانت أكثر وضوحا بما لا يقاس في مجتمعات مثل الاتحاد السوفياتي أو مشتقاته من الدول الاشتراكية ، مما كانت عليه في المجتمعات الرأسمالية.وعلى العكس من ذلك، فقد مكنت العولمة الليبرالية ملايين الناس حول العالم من الخروج من الفقر المدقع. وما يهم في النهاية هو الارتفاع العالمي في مستوى المعيشة ، والذي يسمح اليوم للجميع تقريبًا بالوصول إلى مجموعة كبيرة من المنتجات والخدمات ، والتي لا تقتصر على نخبة واحدة.
ويمكن اعتبار كل الانتقادات لليبرالية التي ذكرها أليكسيس كاركلينز مارشاي في كتابه قابلة للدحض.لكننا نراهن على أن العرض الأكثر صرامة على زيف هذه الانتقادات لن يكون كافياً لإقناع الفرنسيين بفضائل الليبرالية. لأن رفض الالتزام به هو أيضًا ، وربما قبل كل شيء ، مدفوع إلى حد كبير بعوامل غير عقلانية.
وفي كتابه الفرنسي(لا تخافوا من الليبرالية)، كتب باسكال سالين أن الديمقراطية الاجتماعية (تمامًا مثل المجتمعات الجماعية بالكامل ، بدرجة أقل) تقوم على ركيزتين ، هما الإيمان والخوف."الإيمان بحلول الدولة ، الإيمان بالجماعية ، الإيمان بالطوعية ، الخوف من الإخلال بالنظام القائم ، الخوف من التفكير بشكل مختلف ، الخوف من فقدان المزايا المكتسبة. لذلك علينا زعزعة هذا الإيمان والتغلب على هذا الخوف ".لأن تحطيم هذا الإيمان الجماعي أمر يصعب تحقيقه من خلال الجدل والتوضيح العقلاني.
أما الخوف فكيف نأمل أن نتغلب عليه؟ فكما أشار جان فرانسوا ريفيل في كتابه (العرض الكبير)في فصل "الخوف من الليبرالية"، فإن مقاومة الليبرالية تستجيب لحاجة نفسية: الحاجة إلى "تجنب مخاوف حاضرة في كل واحد منا ، الخوف من المنافسة والخوف من المسؤولية " .ومن هنا جاءت كثرة الحواجز التي أقيمت في فرنسا ضد المنافسين الفعليين أو المحتملين ، فضلاً عن المزايا والوضع الخاص الممنوح للمجموعات التي تدافع عن مصالح معينة.
ويشير ريفيل أيضًا إلى أهمية "الراحة من اللامسؤولية التي يجلبها الانتماء إلى الدولة العظيمة بأكملها أو آلة شبه الدولة " .لذلك من المرجح أن يلتزم الفرنسيون بالليبرالية بشرط مزدوج فقط: أن يكون لديهم الوضوح للإشارة إلى أن الدولة والجماعية لم تحل أبدًا أي شيء بطريقة مرضية ، وأنهم يعرفون أيضًا كيف يتجاوزون خوفهم من المنافسة والمسؤولية. باختصار ، أنهم يحاولون استعادة الثقة بالنفس .
· باحث سياسي فرنسي