طالب عبد العزيز
واحد من مثالب الثقافة العراقية أنَّ الاديب والفنان فيها، مهما بلغت قيمته، وعلا شأنه تستعجله أتربة النسيان، ولا يصمد ذكره طويلاً، فينتهي حضورُه، وتخفت أهميته، بمجرد موته، وإنْ تقدم الصفوف، وملأ الدنيا بمنجزه، وكيلت له المدائح، فهو لن يصمد بيننا إلا أياماً بعد دفنه، حتى لكأننا نهيل التراب عليه وما أنجزه معا، فنذهب الى طمس الجسد وما كان عليه، في فعل هو الأشنع بين أفعال الجحود.
لم يصمد ذكرُ سعدي يوسف إلا أسابيع بعد موته، وكذلك كان الامر مع مهدي عيسى الصقر وقبلهم كان مع رشدي العامل ومحمود البريكان ومحمود عبد الوهاب وسامي مهدي والتكرلي وفؤاد سالم وطالب القرغولي وو. وسواء أختلفنا على أهمية هذا وذاك، أو تباينت مواقفنا منهم، إلا أنَّ كل واحد منهم كان قد شكل جزءاً في ثقافتنا، وأيّ حديث عن أحدهم يعني المرور الآمن الى الآخر، والحضور الذي شغره لن يردم بغيره، هذه خريطة يحرّم علينا ثلمها، لأننا نولد في الاختلاف، ونتطور في التباين، ونرتقي بالشك، وثقافتنا تستقيم بتنوعها، وبتقلبها في جغرافيا القبول والرفض داخل الحياة.
يتم بعث الروح في الثقافة العراقية بمنح هؤلاء-الذين غادرونا- حقَّهم على وفق ما انجزوا حسب، ومعيب علينا الوقوف عند نقطة الخلاف معهم، فقد حسم الموتُ الامر، وصاروا في ذمّة الماضي، عاجزين عن الإجابة على أسئلتنا. كنت قد تسلمت من دائرة الشؤون الثقافية عشرة كتب طبعت لقصاصين رحلوا، بينهم كاظم الاحمدي وعبد الستار ناصر ومحمود جنداري وجليل القيسي وسالم الدباغ وموسى كريدي وغيرهم ولا أعتقد بأنَّهم يشتركون في موقف حياتي وسياسي وفني واحد، ورأيت أنَّ أهميتهم تكمن في اختلافهم، وبتباين آرائهم في الفن والحياة. لكنَّ السؤال الاصعب يقول: هل يكفي أن نطبع كتبهم لنمنحهم ما استحقوا وما أفنوا حياتهم من أجله؟
ربما يخدع بعضنا بما يتداوله العامة من مقاطع صوتية للجواهري والسياب ومحمود درويش وسعدي يوسف وغيرهم، ويعتقد آخر بأنَّ أيفاء حقَّ الاديب وجعله حاضراً في الثقافة إنما يتم عبر الوسائل الرخيصة هذه، وبهذه سيأخذ الاديب حقه كاملاً غير منقوص، وربما ظنَّ غيرهم بأنَّ تمثالاً أو نصباً نحتياً أو تسمية مهرجان أو إطلاق اسم قاعة على الاديب مفخرة عظمى وتكريما كبيراً له، وهناك العشرات من الطرق التي سوقت الى العامة بوصفها استحقاق للاديب هذا أو ذاك.. إنزال هؤلاء الكبار لا يتم على وفق الآلية هذه ولا تلك.
إذا كانت حياتنا السياسية على السوء الذي نعرفه فأن حياتنا في الثقافة ليست على الصورة المثالية التي يعتقد بها البعض. أمر الثقافة في البلاد لا يسرُّ، وهي مستبعدة تماما عن إدارة شؤون الدولة، ولا وجود لأي لمسة ثقافية في حياتنا كلها، أمّا ما يقام من مهرجانات واحتفالات باسم الثقافة فهو الخداع عينه. مالم يشرك المثقف في صناعة القرار العراقي لن نكون قد منحنا الاديب والمثقف أهميته وقيمته. بعد عقود طويلة رأينا فشل السياسي ورجل الدين وشيخ العشيرة في إدارة البلاد، وهذا ما لا ينكره أحدٌ علينا، وانتهينا الى ما انتهينا اليه، من خراب في الارض والنفوس والعقول والقلوب والأبدان ولم يبق من منقذ لنا إلا المثقف. صناعة الانسان والارتقاء به يتم عبر قناة العلم والمعرفة والثقافة والمدنية والتحضر واستشراف المستقبل عبر الفلسفة، وهذه خصيصة ينفرد المثقف بها وحده، فلنبحث عن الحياة الحقيقية في كتب الذين غادرونا ونمنح الذين بيننا الحق في القول والفعل، فالخطى مشتركة، والماضي النبيل والمخلص والمفكر به طويلاً موصول بالحاضر.