اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > الشاعرة لميعة عباس عمارة.. صداقة دامت عقود من الزمن

الشاعرة لميعة عباس عمارة.. صداقة دامت عقود من الزمن

نشر في: 11 يونيو, 2023: 12:06 ص

بلقيس شرارة

عندما انتقلنا من الرستمية إلى الكرادة الشرقية في بغداد في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، سكنا في حي (سبع قصور)،

كانت دارنا تطل على نهر دجلة، تحيطها حديقة واسعة بأشجار قديمة باسقة. وكان التمشي على شاطئ دجلة صيفاً من وسائل اللهو الممتعة.

إذ بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، مرّ العراق بنهضة إن كانت بالنسبة للفن أو الأدب، وأصبح بيتنا في تلك الفترة منتدى وملتقى لكثير من الشعراء والأدباء والمفكرين، وكان يجمعهم في تلك اللقاءات حبهم للأدب والشعر، بالرغم من التباين والاختلاف في آرائهم السياسية. وكان محمد شرارة المضيّف والمشجع والراعي لتلك الندوة.

واتخذت تلك اللقاءات طابعاً اسبوعياً، ولم نكن نعلم ان تلك اللقاءت كانت تمثل بداية "نشأة الشعر الحديث أو الشعر الحُر"، إذ كان الجدل يدور حول تجديد الشعر وجعله حراً بلا قافية. وكان الشعراء يقرأون آخر ما نظموه من القصائد، واصبحت تلك اللقاءت الاسبوعية هي البذرة الأولى في تجديد الشعر. كان من بين رواد الندوة الشاعر محمد مهدي الجواهري والكاتب حسين مروة ومحمد حسن الصوري، صاحب جريدة الحضارة، وحسن الأمين وهو شاعر واستاذ في "كلية الملكة عالية" والكاتب كريم مروة، وجميعهم ما عدا الجواهري، من اللبنانين، وإلى جابنهم كان يتردد على الندوة الشعراء الشباب، مثل بدر شاكر السياب ونازك الملائكة ولميعة عباس عمارة وبلند الحيدري وأكرم الوتري، اضافة إلى اصدقاء محمد شرارة كناجي جواد الساعاتي وعزيز أبو التمن وهو أبن الزعيم الوطني جعفر أبو التمن.

كان بدر شاكر السياب ولميعة عباس عمارة من المواظبين اسبوعياً على تلك اللقاءات، وكانا أول من يصلا إلى الدار. كانت تلك اللقاءت بالنسبة لبدر خاصة تجسيداً مكثفاً للحظات التي كان يعيشها مع لميعة، يحاول ان يسرقها قبل ان تفر من بين يديه. وقد نظم بدر بلميعة عدد من قصائد غزل في ديوانيه "أزهار ذابلة" و"أساطير".

وقد كتبتُ عن لميعة في تلك الفترة: "كانت لميعة تجمع بين ذكاء الروح وجمال الجسد، طويلة القامة، نحيفة، ذات عينين جميلتين واسعتين سوداوين. وبالرغم من انها كانت ترتدي فستاناً اسوداً، كانت تتألق نضارة وحيوية وشباباً. كما كانت محّدثة بارعة نقيض الشاعر بدر السياب، ذات نكتة لاذعة، وعندما كانت تلقي قصيدة من قصائدها، فإنها تتكلم لغة الجسد، فتتغنج وتتمايل وتذوب مع الكلمات ومعانيها التي تصدر من بين شفتيها، فيرتفع صوتها تارة وينخفض تارة أخرى، فكانت تشرك كل حاسة من حواسها عند الإلقاء. وبذلك جمعت بشخصيتها العذبة وأسلوبها الجذّاب في قراءة الشعر سحراً كان يخيم على الحاضرين في تلك اللقاءت. كانت قصائد لميعة قصيرة ورقيقة في مضمونها، وكان الحب هو الموضوع الرئيس لتلك القصائد". المقدمة لرواية (إذ الأيام أغسقت ص: ـ16)

ومن أهم قصائد لميعة في تلك الأمسيات، كانت قصيدة (شهرزاد،) وعندما قرأتها لميعة، كانت تذوب مع الكلمات ومعانيها:

ستبقى، ستبقى شفاهي ظماء

ويبقى بعيني هذا النداء

ولن يبرح الصدر هذا الحنين

ولن يخرس اليأس كل الرجاء

***

ستبقى لكفي هذا البرود

ولن تعرف الدفء حتى تعود

عناق الاكف اثار الدماء

وعلمني كيف ينسى الوجود

وتنهيها:

سأغمر بالذكريات البعاد

منُى في النهار، رؤى في الرقاد

ويبقى حديث الهوى قصة

أبت ان تتمها شهرزاد

***

بدأت العلاقة بينها وبين بدر في عام 1946، بعد ان التقت به في الكلية، فتقول لميعة: "بدأت العلاقة بيني وبين بدر عندما دخلتُ دار المعلمين في الصف الأول عام 1946، وكان بدر في الصف الثالث. كانت علاقة صداقة مثل باقي الزملاء يتحلقون حول بدر لسماع شعره. واصبحنا اصدقاء أكثر في نهاية العام الدراسي، واهداني كتاباً بعنوان: (اشهر رسائل الحب) عن جوزفين بونابرت. حدقتُ بوجهه ورفضتُ ان استلم الكتاب، فقال لي: هذا الكتاب عبارة عن قطعة ادبية رائعة. وقد تطورت العلاقة بيني وبينه بعد منتصف عام 1947 حتى 1948، حيث أصبح مدرساً في الرمادي وكان يأتي كل يوم خميس الى بغداد لزيارتي". (حديث تلفوني مع لميعة عام 2008).

و كانت قصيدة "سوف أمضي" تعبير عن العاطفة بين بدر ولميعة، بدأها:

سوف أمضي أسمع الريح تناديني بعيداً

في ظلام الغابة اللفّاء... والدرب الطويل

ورّدت عليه لميعة:

ستمضي، فمن لي ان أمنعك؟

ستمضي، فهل لي ان أتبعك؟

فقلبي، وشِعري، وعُمري، سُدىً

إذ لم أمتّع بعيشي معك.

***

و لكنها لم تسلم من الهجاء عندما انتهت العلاقة بالخيبة والافتراق، إذ كان متيماً بحب المرأة، وخاصة المرأة التي بادلته عاطفة الحب، وكانت لميعة تختلف عن الفتيات اللواتي نظم فيهن بدر قصائده، فقد بادلته الحب، ولو اختلفت الأراء في هذا الشأن، فالبعض يعتقد ان الحب كان من طرف واحد، والبعض يعتقد ان الحب كان من الطرفين.

اصيب بدر بالخيبة، بعد أن رفضت لميعة عرضه الزواج منها، لأختلاف دينهما، حيث لا تسمح تقاليد المجتمع به، فكتب شاعر الروح والحرمان قصيدة كرد فعل:

اساطير من حشرجات الزمان

نسيج اليد البالية

رواها ظلام من الهاوية

وغنى بها ميتان

***

وهذا الغرام اللجوج

أيرتد من لمسة باردة

على أصبع من خيال الثلوج

واسطورة بائدة.

***

وتجيبه لميعة:

اساطير نمّقها الخادعون

واشباح موتى تجوبُ القرون

لتخنق اجمل احلامنا

***

وانقطعت العلاقة بينها وبين بدر، بعد أن تزوجت في نهاية 1951، فلم تلتق به إلا بعد سنوات، حيث أقام د. صلاح نيازي حفلاً برئاسة د.علي جواد طاهر، في دار المعلمين العالية في 15/2/1956، فقرأتْ قصيدة "الزاوية الخالية". وقد فوجئتْ ببدر عندما صعد المنصة، وقرأ قصيدة حماسية وسياسية عن بور سعيد وعن عبد الناصر.

أما قصيدة لميعة فقد عبّرتْ فيها عن الفراغ الذي كانت تعاني منه، حياة رتيبة خالية من الابتكار والابداع، حتى انها نسيت الكلام لهيمنة القضايا الآنية على حياتها.

أحس كأني نسيتُ الكلام

نسيتُ وجودي، نسيتُ الألم

كماكنة دون ما غاية

تسيرُ، وما شعرت بالسأم

وكان فراغي أمتلاء الخيال

فصار امتلاء حياتي عدم.

***

كانت لميعة عضواً في الهيئة الادارية لإتحاد الادباء، وقد القي القبض عليها في عام 1963، في الانقلاب الذي قام به القوميون والبعثيون بقيادة عبد السلام عارف ضد حكومة عبد الكريم قاسم، حيث ألقي القبض على عدد كبير من اليساريين والشيوعيين، وقد نظم بدر قصيدة لم تسلم فيه لميعة من الاشارات القاسية:

وغيبّها ظلام السجن وتؤنس ليلها شمعة

فتذكرني وتبكي، غير إني لست أبكيها

***

واستمرت لميعة على زيارة والدي والعائلة، ولكني لم التقي بها إلا نادراً بعد ان تزوجتُ وانتقلتُ لدار رفعة الجادرجي. و كان آخر لقاء كان لي مع لميعة في بغداد، عام 1978، في دار شقيقتي حياة، إذ كانت مصممة على الهجرة إلى الولايات المتحدة، حيث استقرت وعائلتها في كاليفورنيا، في مدينة سانديغيو.

ولكن شاءت الصدف أن نلتقي في بوسطن في بداية التسعينيات من القرن الماضي، عندما كنا نعيش في بوسطن/ الولايات المتحدة، فقد دعيتْ لميعة من قبل الجالية العراقية وقرأتْ عدة قصائد، منها قصيدتها بعنوان: (بغداد أنت). وهي حنين وتعبير عن الغربة التي كانت تعاني منها في اعماقها والحنين إلى مدينتها بغداد، فهنالك انتماء وارتباط روحي بأرض العراق:

اقول ساهجر كل العراق ولست بأول صب هجر

فيهتف بي هاجس لا يرد... مكانكَ، إن المنا عبر

هنا تقطنين... هنا تدفنين، أما السري فمنايا أخر

وتعصف بغداد في جناحي... أعاصيرُ من ولهٍ لا تَذر

وبغداد قيثارتي البابلية... قلبي وهُدْبي عليها وَتَرْ

لها في فمي سحر كُهانها وآثارُ ما قبلوا علها حجَرْ

وما رصدوا كوكباً وكوكباً وما ميزوا الكون خيرا وشر

تراث ترمّخ بالطيبات وبالمجد منها إليّ انحدر

وبغداد أنت، إذا شط بي مزار لواني إليها القدر

حصاد المروءات من بدرها وريقٌ أنيقٌ رهيفُ الصور

***

وعندما طلبتُ منها في تلك الندوة ان تقرأ بعض أبيات من قصيدة (شهرزاد) رفضت، وقالت لي اعلم من انك ستطلبين قراءة هذه القصيدة. ويظهر انها لم تكن ترغب في أن تنعش الماضي الذي عاشته في بغداد، بأفراحه وآلامه، بالرغم من أنها قرأت قصيدتها عن بغداد في تلك الندوة، التي هي حنين إلى الماضي.

مرّت عدة سنوات على ذلك اللقاء، وعدنا من بوسطن إلى أنكلترا، وسكنا في كنكيستن، وفي عام 1996، زارتنا في دارنا المطلة على نهر التايمس، نظرتْ لميعة إلى النهر، والتفت قائلة: بلقيس يذكرني بداركم الذي كان يطل على نهر دجلة في الكرادة الشرقية. وقد القّت في ذلك النهار قصائد باللهجة العامية، بصحبة سعدي الحديثي، وقالت: إن اللهجة العامية تقرّبها من الجمهور المحلي في العراق.

وعندما انتحرت شقيقتي حياة وابنتها مها عام 1997، لم تكن حادثة مؤلمة، ومفاجئة، بل كانت فاجعة، ليس فقط بالنسبة للمقربين، لكنها شملت حتى الأصدقاء والمعارف. فكتبتُ مقدمة طويلة للرواية التي كتبتها حياة بعنوان: (إذ الأيام أغسقت)، وصدرت الرواية في عام 2000، عن مؤسسة دار النشر العربية، فبعثتُ نسخة من الكتاب إلى عنوانها في سانديغيو، فاتصلتْ بي لميعة تلفونياً، وقالت: بلقيس لقد قرأتُ المقدمة وانفعلتُ كثيراً، بحيث وضعتُ الكتاب بجانب رأسي في غرفة النوم ولم استطع ان اعود لقراءته إلا بعد يومين، وذلك للعلاقة الحميمة التي كانت تربطنا بها.

و كان آخر لقاء لنا في بيروت عام 2000، حيث نظّم المجلس الثقافي لجنوب لبنان حفل تكريمي لها، والّقت بعض قصائدها، ثم دعيت إلى دارنا في "حالات"، قلتُ لها: دارنا جميلة تطل على البحر الأبيض المتوسط، إنها جميلة لدرجة، إنها تستحق ان تنظمي بها قصيدة، فأجابتني: صحيح إنها جميلة جداً.

كما كان آخر حديث لي مع لميعة عن الكتاب الذي كتبته عن والدي بعنوان: (محمد شرارة من الإيمان إلى حرية الفكر)، الذي صدر عام 2009 عن دار المدى، فتحدثنا عن والدي والندوة الشعرية التي كانت تقام في دارنا، ثم اضافت: (لقد تذكرتُ والدك يا بلقيس، وبكيت عندما قرأت ان قبره أصبح من الدوارس، كما أهنئك على الكتابة الموضوعية المتسامحة، الخالية من الانتقام، بالرغم ما حل بالعائلة من ظلم وجور وتعّدٍ. وقد هزني التسامح الذي اتسمتِ به في كتابتك عن العائلة وحياة... بلقيس ان تلك الأيام، أيام الخميس، التي كنا نجتمع فيها في داركم، ما زالت قابعة في الذاكرة، الذاكرة الجميلة التي لا تنسى).

مرّ أكثر من عقد على تلك المكالمة، وعلمتُ ان صحتها غير جيدة، تعاني من الربو، واتذكر جيدا آخر مرة التقيت بها، كانت جالسة امام منصة في كلية الآداب في حفل شعري في بيروت، وبدأت بالقاء الشعر بصوت مبحوح متعب، تتنفس بثقل، تتوقف تارة لتستعيد انفاسها، يقاطعها السعال الذي انهك رئتيها. حزنتُ عندما نظرت إلى وجهها الذي عاث الزمان به، وخبا بريق عيناها الرائعتين اللتين هيمنتا على الحاضرين في تلك الجلسات الشعرية التي عقدت في دارنا منذ اكثر من نصف قرن تقريباً.

في مثل هذا الشهر منذ عامين رحلت لميعة في 18 حزيران، 2021، وبوفاتها انطفأت شمعة من شموع العراق التي أضاءت الطريق للأجيال القادمة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 2

  1. Anonymous

    احببت الوفاء الموجود في المقال للماضي الجميل للاشخاص المميزين الذين لن يتكرروا للأماكن العالقة في الذاكرة الوفاء ...

  2. قيس السعدي

    شكرا لهذا لإستذكار الموضوعي الطيب ففيه تفاصبل وشهادة أحداث غير معروفة للكثيرين

يحدث الآن

ليفربول يخسر وديا أمام بريستون

مجلس الخدمة ينشر توزيع حملة الشهادات والاوائل المعينين حديثا

البرلمان يشكل لجنة إثر التجاوزات على اقتصاد العراق وأراضيه

بايدن يرفض دعوات الانسحاب من الانتخابات الامريكية : انتظروني الأسبوع المقبل

وفاة محافظ نينوى الأسبق دريد كشمولة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram