TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > الفلسفة والمدينة .. والتأثير المتبادل

الفلسفة والمدينة .. والتأثير المتبادل

نشر في: 13 يونيو, 2023: 09:42 م

حازم رعد

ان مفهوم المدينة في التعبير اليوناني والرافديني القديم يشير على شكل النظام السائد انذاك والذي كان يعرف بدولة المدينة ، فقد تأسست تلك الجغرافيات اول امرها على تجمعات سياسية فرضتها عليهم واقع مدنهم فكانت كل مدينة مهما كان حجمها وكثافتها السكانية لها نظامها السياسي المستقل عن الاخريات المجاورة او البعيدة عنها ، وفي التفاته نوعية نتفهم ان حق تقرير المصير للمدن في ان يحكموا انفسهم باستقلال كان متواجداً بفهمه البدائي .

والكلام عن مفهوم الفلسفة والمدينة في جوهره حديث عن نوع من العلاقة والترابط بين الفلسفة والسياسة ، ومبادلة تأثير كل واحدة منها في الاخر ، فكل ماهو سياسي هو فلسفي ضرورةً وليس العكس صحيح ، اذ السياسة حصة ونظرية من منظومة الفلسفة ،

ان تطور المدينة - الدولة متوقف على تطور الافكار الفلسفية وما تقدمه من مفاهيم ومفردات جديدة للمدينة بوصفها نظاماً سياسياً قائماً ، وان افادة الفلسفة من المدينة يعنمد على البيئة المناسبة التي توفرها المدينة - الدولة للفلسفة من اطلاق الحرية واخلاء السرب للتفكير والنقد والنقاش الاستدلالي القائم على مطارحة الافكار والمقارنة بينها وبذلك تعود الفائدة على الفلسفة وعلى المدينة على حد سواء .

احياناً ينظر الى المدينة على انها تجمع سياسي يخلوا من روح المدينة “اي يفتقر للحرية والعمران المتناسق وتوفر ما يحقق جوهر المدينة” اي النظر الى النظام من ناحية توفر شروط قيامه كعمران مديني مكتمل المعالم وتام الشروط .

والا فأن هناك تجمعات رغم ما نشهده فيها من تطور على مستوى الابنية والعمران المادي الا انها تدل على وجود رؤوس اموال فقط وليس تحقق شروط المدينة من وجود رؤية وفلسفة للدولة وعمران بشري حضري وانتشار قيم وحريات ومفاهيم مثل العدالة والمساواة والتسامح وقبول الاخر وهي العلل اللازم توفرها لكل مدينة مكتملة المعالم .

قد يشير مفهوم المدينة بمعناه السياسي الى انه نقيض البداوة ، وذلك يعني ان الحياة المدينية انخراط في الحضارة ومسايرة لركبها في تلك المدن التي تجد ان الفعل السياسي تدبير شؤون الجماعة الانسانية والدولة بداعي رفاههم والسهر على امنهم وتلبيه احتياجاتهم ، وقد تكون بعض من المدينية فاقدة لتلك الشروط فتكون طبيعياً فاقدة للمواصفات ، فالمدن قد تكون مستبدة تحتكر الرأي والقرار كما في الرافدينية القديمة والانظمة الشمولية في الوضعين الحديث والمعاصر وقد تكون ديمقراطية منفتحة على الجميع كما في اليونان القديمة والديمقراطيات الحديثة ولكل لون من تلك المدن - الدول فلسفتها التي تتغذى منها بالمفاهيم والنظريات وادوات الفعل والتصرف وكذلك تكون لها رؤيتها التي تقوم عليها وتسعى لتطبيقها .

المدينة في بعدها الاعتباري شكل من التنظيم الذي يتقدم تصور عن القوانين وطرق العيش واشكال الممارسة والالتزامات الاخلاقية في اطار ذلك التنظيم ، وان عملية التفكير و “التفلسف” هما الوسيلة الوحيدة للانسان لتحسين شروط العيش في المدينة اذ الانسان كما يفكر يعيش وتنعكس طرائق تفكيره على السلوك العام الذي يقوم به وتترجم الى افعال وتصرف اما ان ينعم بجو مناسب للعيش او العكس من ذلك .

وعندما نقول بانه تنظيم نعني بذلك مرحلة من النضج يصل اليها التفكير الانساني بضرورة الاجتماع الانساني القائم على المشاركة المربحة لكل الاطراف القائمة على وعي بالمصالح المشتركة وتثبيت السلم المجتمعي وارساء تسس التعاملات لانشاء ذلك التجمع الذي يقويهم ويجعل منهم بنية متكاملة تعمل بشكل تساهمي متعاضد يهدف الى خوض الحياة باسهامات متعددة توفر متطلبات متنوعة تلبي استحقاقات الجميع “المشاركون في الكيان المديني” حسب القابلية والاحتياج .

في المدينة - الدولة نشأ اسلوب الحجاج والجدل على المسائل العامة التي تشغل تفكير كل مواطن فيها ، ويستمر ذلك الجدل حتى مع تقادم التاريخ ولكن باساليب وطرق مختلفة فمثلاً ان الديمقراطية الاثينية كانت مباشرة اي ان الناس الاحرار يباشرون نقاش وحكم انفسهم بانفسهم بينما ديمقراطية عالم اليوم مختلفة فهي تمثيلية غير مباشرة فهناك افراد ينتخبون ينوبون عن الجمهور العام الجدل “نقاش” القضايا ذات الشان العام المشترك ويشرعون القرارات داخل المجالس العامة ، وهكذا تتبدل الطرق والاساليب ولكن جوهر ممارسة الجدل واحد ، ثم انه مع نشأة ذلك الجدل والحوار قامت الفلسفة فهي طريقة بالحجاج تعتمد الاستدلال “تقديم الدليل على صحة الرأي الذي تطرحه” وذلك ما جعل المدن اليونانية القديمة تتميز بذلك النزوع العقل صوب طلب الحجج على كل فكرة واعتماد الحوار لفك اشتباك الخلاف على الافكار وجعل الاستدلال شرط صحة الفكرة وشاعت الحرية واحترام الرأي الاخر والانصات له فكان ان لكل مواطن ان يناقش الاشياء التي تدخل في اهتماماته كمواطن ينتمي لهذه المدينة او تلك وليس لاحد منع اي احد من ذلك الحق الطبيعي ، وهذا النقاش يبرز الافكار المهمة ويميزها عن غيرها وكما يسهم في مشاركة اراء الاخرين والمفاضلة بينها على اسس واقعية يفرضها النقاش وقدرة الفكرة على الاندماج في الواقع واحتمالها على امكانية ان توفر مفردات جديدة تلبي منظومة المدينة المعرفية التي تقوم عليها .

ان القول بتبادل ادوار التأثير بين الفلسفة والمدينة امر واقع وفعلي اذ لابد من وجود رؤية وتحقق ستراتيجيات ووجود غايات للدولة وذلك ما توفره الفلسفة او هو بعينه فلسفة للمدينة - الدولة ، كما ان الاخير تهيأ البيئة المناسبة للفلسفة وشروط نموها وتطورها فيما او كانت تعترف باهميتها وقيمتها الحقيقية .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

القضاء يأمر بالقبض على نور زهير ويمهل الكفلاء 13 يوماً لجلبه

بسبب تعطيل مجلس نينوى.. نائب رئيسه يعلن استعداده للاستقالة!

الأنواء الجوية: انخفاض درجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

عالمياً.. النفط يعود للانخفاض بعد 3 جلسات من الارتفاع

السوداني يبدأ زيارة رسمية إلى مصر وتونس

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

وراء القصد.. ولا تيفو.. عن حمودي الحارثي

شعراء الأُسر الدينية.. انتصروا للمرأة

العمودالثامن: فاصل ونواصل

العمودالثامن: ذهب نور وجاء زيد

شراكة الاقتصاد الكلي والوحدة الوطنية

العمودالثامن: لماذا يكرهون السعادة؟

 علي حسين الحزن والكآبة والتعوّد على طقوسهما، موضوع كتاب صدر قبل سنوات بعنوان "ضدّ السعادة"، حشد فيه مؤلفه إيريك جي. ويلسون جميع الشواهد التي ينبغي أن تردعنا عن الإحساس بأي معنى للتفاؤل، فالمؤلف...
علي حسين

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

محمد الربيعي (الحلقة 3)التجربة الكوريةتجربة كوريا الجنوبية في التعليم تعتبر واحدة من أنجح التجارب العالمية فقد استطاعت أن تحقق قفزة نوعية في مسارها التنموي، فحوّلت نفسها من دولة فقيرة إلى قوة اقتصادية عظمى في...
د. محمد الربيعي

مركزية الوهم العربي: بين الشعور بالتفوق ونظريات المؤامرة

قحطان الفرج الله مفهوم "المركزية" الذي يقوم على نزعة الشعور الجارف بتفوق الأنا (سواء كانت غربية أو إسلامية) وصفاء هويتها ونقاء أصلها. بحسب الدكتور عبد الله ابراهيم الناقد والمفكر العراقي، الذي قدم تحليلًا معمقًا...
قحطان الفرج الله

تفاسير فظيعة في تفخيذ الرضيعة

حسين سميسم وجد الفقهاء أن موقفهم ضعيف في تشريع سن الزواج، نظرا لضعف الروايات التي اعتمدوا عليها، اضافة الى خلو القرآن من نص صريح يوضح ذلك، فذهبوا إلى التفسير بحثا عن ضالتهم، ووجدوا في...
حسين سميسم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram