اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > بحث الإنسان عن معنى لحياته

بحث الإنسان عن معنى لحياته

نشر في: 13 يونيو, 2023: 09:48 م

لطفية الدليمي

لعلّ معظمنا يتفق أنّ لودفيغ فيتغنشتاين هو أحد أعظم العقول الفلسفية في القرن العشرين ؛ بل قد يكون أهمّها كما يرى برتراند راسل .

كان فيتغنشتاين سليل عائلة أوروبية فاحشة الثراء ، وبعدما مات أبوه ، قطب صناعة الفولاذ الاوربية ، ترك له ولأشقائه ثروة طائلة تعدُّ بمليارات الدولارات بمقاييس زماننا هذا . الغريبُ أنّ فيتغنشتاين آثر أن يتنازل عن كلّ ثروته لإحدى أخواته ، ثمّ مضى يعمل في أعمال بسيطة مثل معلّم في مدرسة قروية قريباً من سفوح الالب ، ثمّ عمل بعض الوقت بوّاباً في عمارة سكنية !! . حتى راسل الذي أعجب بمقدرة فيتغنشتاين الفلسفية رأى في سلوكه فعلاً أخرقَ عصياً على الفهم .

هل كان سلوك فيتغنشتاين فعلاً عبثياً يفتقد إلى المعنى ؟ لاأظنّ ذلك . قد يكون فعله مفتقداً للمعنى من وجهة نظرنا نحنُ ؛ لكنّه رأى فيه فعلاً منطقياً كاملاً بل وواجباً . يصعبُ على المرء أن يعتقد بافتقاد حياة فيتغنشتاين – وهو الفيلسوف اللامع – إلى المعنى .

ثمّة تسجيل فيديوي يتحدّث فيه المخرج العالمي وودي آلن Woody Allen ، يقول فيه : كلّ شيء سبق لك أن حقّقتَه مصيره إلى زوال محتوم . الأرض ستزول ، والشمس ستنفجر، والكون سينتهي، وكلّ أعمال شكسبير ومايكل أنجلو وبيتهوفن ستختفي في يوم ما مهما قدّرناها وأسبغنا عليها من عظمة ورفعة . إنّ من الصعب إقناع الناس بأي شيء إيجابيّ حول هذا الأمر».

هنا مكمنُ السؤال الوجودي الأكثر أهمية بين كلّ الاسئلة : كيف أمكن للوجود البشري أن يتواصل وسط هذا العماء الوجودي المفتقد إلى معنى وغاية؟

يبدو لي أنّ سؤال ( معنى الحياة ) ، برغم كونه أحد الاسئلة الوجودية الاساسية ، يختلف عن سواه من الاسئلة الوجودية الخاصة بأصل كلّ من الوعي والحياة والكون من حيث الاعتبارات التالية :

أوّلاً : يتداخل معنى الحياة بطريقة عضوية مع كينونتنا ونظرتنا إلى الحياة . الحياة بذاتها تركيب محايد ليس معنياً بأن يكون له معنى . نحن من نخلع المعنى على الحياة ، وهذا المعنى يتلوّن بلون أمزجتنا العقلية ودوافعنا الذاتية : الروائي مثلاً يرى في الحياة لعبة تخييلية صالحة دوماً لأن تكون ساحة لفعالية روائية ، والفيزيائي يرى في الحياة تركيباً يعجّ بسحر الصياغات الرياضياتية المبهرة التي تحمل في طياتها كل خزين العالم من معنى وغاية ، ويسري الأمر ذاته مع الآخرين ، وكلٌّ حسب مزاجه وثقافته وتدريبه المهني، وممارسته الحِرَفية ، وتشكّله الفلسفي والذهني .

ثانياً : يبقى ( معنى الحياة ) موضوعاً لمباحث ذات طبيعة ميتافيزيقية وليست علمية خالصة على العكس من الاسئلة التأصيلية الثلاثة الاخرى التي يشكّلُ العلم حجر الزاوية في الجهود البحثية عن طبيعتها . السبب يكمنُ في أنّ العلم غير معنيّ بسؤال ( لماذا ؟ ) بل بسؤال ( كيف ؟ ) وحده . سؤال المعنى ليس مكانه المباحث العلمية وإن كانت هذه المباحث يمكن أن تساهم بطريقة غير مباشرة في الكشف عن بعض المناطق المظلمة في بحثنا لإكتشاف المعنى .

ثالثاً : ثمة تصوّر بوجود اقتران شرطي بين معنى الحياة وغايتها ووجود أخلاقيات حاكمة فيها . قد لا يُبدي بعض المنافحين عن وجود معنى وغاية للحياة ولعاً بالتفاصيل الفلسفية والرياضية والفيزيائية ؛ بل يكتفون بتلك الحجة الأزلية: كيف يمكن تصوّر العيش في عالم غير ذي غاية ولا معنى؟ وهل ثمة إمكانية لوجود أخلاقيات في مثل هذا العالم؟ هذا الربط الشرطي بين المعنى والاخلاقيات فعلٌ ينطوي على سوء مستطير . الاخلاقيات يجب أن تتعالى على كلّ الاوضاع البشرية حتى نضمن سموّها وعلويتها وقدرتها على الفعل في الحياة البشرية .

رابعاً : موضوعة معنى الحياة ، وبخلاف الموضوعات الاخرى ، ليست موضوعة سكونية بل تتباين أشكالها مع نموّ الفرد الجسدي والعقلي . يحصل في الغالب أن يقترن معنى الحياة بمشخصات مادية في أطوار النمو الأولى ، ثمّ تنزاح القيمة المادية باتجاه أهداف ميتافيزيقية يصعب وضعها في إطار التقييس كلّما تقدّم المرء في سنوات حياته .

* * *

نُشرت العديد من الكتب التي تتناول معنى الحياة من منظورات متعددة : فلسفية أو فيزيائية أو لاهوتية أو نفسية . ربما يحضرنا في هذا المقام كتاب فكتور فرانكل ( بحث الانسان عن المعنى ) الذي صار في عداد الكلاسيكيات الرفيعة . تبدو كتابات المختصين بعلم النفس الاكلينيكي بشأن معنى الحياة ذات أهمية اعتبارية كبرى لأنهم يكتبون في سياق الصراع الوجودي للإنسان في هذا العالم ومن واقع خبرتهم الحقيقية .

يفعل الدكتور كارلو سترينغر Carlo Strenger الامر ذاته عندما يقدّمُ كتابه الخوف من الافول : البحث عن المعنى في القرن الحادي والعشرين

Fear of Insignificance : Searching for Meaning

In the Twenty First Century

الذي ترجمه الدكتور حميد يونس إلى العربية عام 2022 . مؤلف الكتاب ومترجمه يتوفران على معرفة رصينة بأدوات علم النفس الاكلينيكي مضافاً لها شغف طاغٍ بالمباحث الفلسفية المقترنة بالوجود البشري المكتنف باشتباكات صراعية متعددة الجوانب . الدكتور سترينغر عالم نفس سويسري ( مولود عام 1958 ) ، وهو فيلسوف متمرّس بتاريخ الافكار وفلسفة وتاريخ العلم ، ويُعرَفُ عنه في أبحاثه المنشورة التركيز على موضوعة تأثير العولمة على معنى الوجود البشري وتشكيل الهويات الفردية والجمعية . نشر سترينغر مايقارب الاحد عشر كتاباً . أما الدكتور حميد يونس فهو ناشط ترجمي وله صفحة مهمة على الفيسبوك ، وقد قرأت له من بين ترجماته العديدة كتابا عنوانه ( الدماغ الخلاق : علم أعصاب العبقرية ) اضافة لكتابه المترجم اعلاه . للدكتور يونس اهتمامات روائية ايضا ظهرت خلاصتها في روايته ( آخر أمراض الكوكب ) .

يمكن وضع صيغة إطارية لكتاب سترينغر عنوانها ( مكابدات الانسان المعولم Homo Globalis في عالم معلوماتي وترفيهي تحكمه الاسواق الحرّة ) . يبدأ المؤلف كتابه بمقدمة ثرية يكشف عنوانها الدرامي ( لحظتنا التاريخية )عن ماهية مادتها :

« بعد سقوط جدار برلين في 1989 تصاعد تأثير مؤيدي الاسواق الحرّة الذين تولّوا زمام الاقتصاد إبان حكم رونالد ريغان ومارغريت تاتشر ، وعاشوا نشوة الانتصار بعد زوال الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفييتي ..... حتى باتت الاسواق الحرّة هي الدين العالمي الوحيد الذي يتمتّع بالصلاحية العالمية المطلقة . تغيّرت بعد ذلك قيم كلّ شيء بدءاً من الشركات إلى الاديان ، ومن التسجيلات الموسيقية إلى الافكار . لم يعُد ثمة شيء محدّد إلا أنظمة التصنيف مثل أسواق البورصة والمال ، وقوائم أفضل الكتب مبيعاً ........ كانت مسألة وقت قبل أن تطال أنظمة التصنيف البشر ، وتتحوّل إلى مرحلة تسليعه ، ومما لاشكّ فيه أنّ النظام المعلوماتي والترفيهي عجّل من هذا التسليع ...... وهكذا أختزِلت الحياة الهانئة في أنموذجين : الثراء ( بوصفه التقييم الكمي لما لديك ) ، والشهرة ( بوصفها التقييم الكمي لمدى معرفة الناس بك ) ..... « .

هذا هو حجر الزاوية في كامل الخريطة المفاهيمية للكتاب ، وليست الفصول اللاحقة سوى هوامش تفصيلية دقيقة ومثيرة لهذا المتن الذي يختزل صراع الانسان في عالمنا المعاصر – تلك الحالة الصراعية الناجمة عن تسليع متعاظم مافتئ يتسبّبُ في خلخلة إحترام الذات وتشكك متزايد في عيش حياة تستحق عبء عيشها ؛ فكانت النتيجة المتوقعة قلقاً وجودياً مستداماً نجهد لعلاجه باستخدام الادوية النفسية والنصائح الروحانية السطحية من قبل نجوم التنمية البشرية الذين صاروا أبطالاً علينا اقتفاء خطواتهم المبشرة بالنجاح . هذا في أقلّ تقدير ماتبشرنا به الوسائل الاعلامية ذات السطوة الضاربة .

يضمّ الكتاب ثلاثة أجزاء ، لكلّ جزء منها ثلاثة فصول . يتناول الجزء الاول وعنوانه ( هزيمة العقل ) تشخيص محنة الانسان المعولم ؛ أما الجزء الثاني وعنوانه ( من سوق الانا إلى دراما الفردانية ) فيحاول فيه المؤلف تقديم بديل وجودي لمفهوم الذات التي روّجت لها الثقافة الشعبية السائدة والمتجوهرة بعبارة ( إفعلها وحسب . أنت تستطيع فعل كل شيء وأي شيء ) . أما الجزء الثالث وعنوانه ( المطالبة بعقولنا ) فيدعو فيه المؤلف لإعادة تأسيس ثقافة المنطق بوصفها ترياقاً للعبثية التي يقدمها نموذج ثقافة النسبوية Relativism وبخاصة في حقل الثقافة والاخلاقيات .

أستطيع القول ، بعيداً عن النبرة الاكاديمية ، أنّ الخلاصة الفلسفية لمعنى الحياة قد تكون متجوهرة في العبارات القليلة التالية :

يكمن معنى الحياة وغائيتها في عقولنا وأرواحنا فحسب . قل كلمتك وافعل الخير، وابذل أقصى جهودك في فعل ماتحبّ وتهيم به شغفاً، ولاتنتظر مكافأة فورية أو مؤجّلة لكل فعل طيب تفعله ، ولاتدنّس ضميرك الحي بصغائر الأفعال ، واحرص على ربط بواعث سعادتك بمسببات ميتافيزيقية رفيعة عوضاً عن مُشخّصات مادية سريعة التبدّل والعطب . هذا هو مايخلع معنى على الحياة ، وليس كل ماسواه إلا سفسطات مترسبة في دواخلنا بفعل سطوة القناعات الزائفة أو الراحة الموهومة الناجمة عن الارتكان لأمثولات سائدة لم نختبر قيمتها الحقيقية في حياتنا

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ليفربول يخسر وديا أمام بريستون

مجلس الخدمة ينشر توزيع حملة الشهادات والاوائل المعينين حديثا

البرلمان يشكل لجنة إثر التجاوزات على اقتصاد العراق وأراضيه

بايدن يرفض دعوات الانسحاب من الانتخابات الامريكية : انتظروني الأسبوع المقبل

وفاة محافظ نينوى الأسبق دريد كشمولة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram