حيدر المحسن
من المفكرين من يعدّون تاريخ الإنسان صراعا من أجل الحرية، وهناك من يولي هذا الصراع عرض كتفيه ويؤمن بأنه النزاع الذي لا ينتهي بين الذين لا يملكون المال والذين يملكونه، أي صراع الفقراء مع الأغنياء.
المال هو الشّيء الجميل والبشع في دنيا الواقع في الوقت نفسه، وكل الشّوائب يغذّيها المال، وتتعمّق هذه مع السنين وتصير سعارا لدى المرء، فتراه يخطّط في اللّيالي والنّهارات لغرض جمع المال. لقد صار أسيرا له أبد الدّهر، وينطبق هذا الكلام على أغلبيّة البشر، رجالا ونساء، فقراء ومعدمين وأثرياء، ولا يبرأ من هذه اللّوثة إلاّ من كان ذا حظوة قويّة لدى آلهة القدر.
لا توجد في دنيا المال سيرورة مستمرّة، مهما أوتينا من حكمة وحظّ وخبرة في التعامل. القول الفيصل في الأخير يعود إلى أحكام غامضة يقودها قدر سرّي لا يستطيع فكّ ألغازه أحد، ويقرّر مصيرنا كذلك، وبأيّ صورة يشاء أن نكون، والمال هو مَن يقوم بالتركيب والتصوير، ويمكنه أن يظهرنا بالشكل الأحسن والأقبح، والأكثر قبحا وفظاعة...
أكثر النّاس إلحافا في طلب النّقود هو الفقير الذي ينعت فقره بالأسود، وهذا لا يريد أحدنا أن يلتقي به أو يصادفه، ولو مرّة في العمر. مثلما هناك رغبة ومثابرة في طلب الثّراء، نجد عند البعض ميلا شديدا إلى طلب الفقر، الأسود منه على الخصوص، وهناك من يثبت بسالته في طلبه، أو أن قدره يفعل المعجزات من أجل بلوغه. مَثَل: (الفقير فوق الجمل وعضّه الكلب). الإرادة الحديدية في طلب البؤس هي التي تبلغ بصاحبها هذا الهدف.
النوع الثاني من الفقر يُنعت بالأبيض، وهو أرستقراطيّ في طبعه، يشرق الوجه معه، ويترك لصاحبه الفسحة في أن يعيش بتوازن مادّي، كما أن فيه نوعا من النّقاء الخاصّ يجعله يقاوم التّأثيرات القويّة التي تهزّ أوصال المجتمع. ثمّة عوز، وثمّة مظهر يدلّ على التّقشّف يقلقلان كيان الفقير، ولكنْ هناك حبلٌ صلبٌ من الثّراء يشدّ بدنه فيحسبه الرّائي ممتلئا. الفقيرُ الأبيض _ ولا علاقةَ للون السّحنة بالتعبير _ إنسانٌ تشكّل بالفعل ولا يمكن تحطيمه، امرؤٌ يستطيع أن يكون سعيدا جدا بأسلوب رقيق ومتضائل، كما أنه يملأ كرتنا الأرضية مثل النباتات العشبيّة التي تعيش في جميع الظّروف. كائن مصنوع من الحسّ السّليم والحشمة، ولا هو ذليل ولا هو في حاجة إلى خدم، والرّصانة التي يتعامل بها في كيفيّة التصرّف بالمال تجعل الأثرياء يبدون أمامه مثل شخصيات في مسرحية هزلية. لقد أوصلته القناعة إلى حالة من الرضا العبقري تعطي صاحبها مظهر النّبالة الذي عزّ وجوده في هذا الزّمان، وصُبَّ في جسد وروح حازتا الجمال الرائع لأنه تجرّد من أية أطماع، فالحياة المتواضعة ليست دوما بائسة، وتشبه إلى حدّ كبير طريقة عيش أصحاب المال الأبيض، وهو الحاصل من المال القديم، أو التّليد بتعبير الأوّلين، الموروث من الآباء والأجداد نتيجة عمل دائم أو مصلحة قائمة. كما أن الفقر الأبيض لا يجعل المرء ينحدر إلى دركات مدقعة من العَوَز، فالكفاف الذي خاطه تدبيره في أمور المعيشة زانه مثل بدلة لا يرتديها أولئك الذين ابتلاهم الفقر الأسود بالشّحّ في كلّ شيء، وأوّله الأخلاق، وهذه تقلّ هي الأخرى أو تُعدَم في حال الغنى الأسود، عندما يصحو الإنسان ويجد المال يتكدّس عليه، وكان هذا الحال مذموما لدى الأقدمين، يدعونه بالمال الطّريف أو القشيب، وهو الفاسد والمخلوط بالسمّ، من قشبَ الشّيء إذا فسد، ويغيّر هذا النوع من الثراء النّفس لا الذات، وهي المعدن الذي صاغنا منه الخالق، ولا يتغيّر بتبدّل الظّروف المحيطة.
جميع أموال العالم تجعلك فقيرا مذموما إذا نطقتْ فيك آفةُ الطّمع، كما أن نزعة الجشع تؤول بالبشر إلى الضّياع حتما. هنالك لوحات جحيميّة تمثّل الرجس البشري بأحطّ صوره يسلكه الإنسان في سبيل الحصول على المزيد من المال، وأكثرنا سوء حظّ هو من يعمل الفقر الأسود في جسده مثل حبل يغوص في الأعماق، والثراء الأسود يشبهه...