TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > في البداية كان التعصب لا التسامح!

في البداية كان التعصب لا التسامح!

نشر في: 14 يونيو, 2023: 11:40 م

د.هاشم صالح

ينبغي علينا الاعتراف بالحقيقة التالية: ليس من السهل أن يكون المرء متسامحًا. ليس من السهل أن يقبل بالرأي الآخر المختلف عن رأيه وعقيدته. ليس كل الناس فولتير الذي قال: قد أختلف معك في الرأي ولكني مستعد لأن أضحي بحياتي لكي تستطيع التعبير عن رأيك! هذا موقف ديمقراطي لا يقدر عليه إلا الكبار، أو كبار الكبار. ولذا فإن التسامح ليس هو الحالة الطبيعية للإنسان وإنما التعصب هو الحالة الطبيعية. ينبغي أن نعترف بالحقيقة:

البشر ليسوا ملائكة في الحالة الطبيعية! وإنما هم ذئاب ضارية بعضهم تجاه بعض كما قال هوبز. الإنسان ذئب لأخيه الإنسان. والقوي يقتل الضعيف أو يفترسه كما تفعل الوحوش في الغابات. ولذا فالبشر بحاجة إلى تطوير وتهذيب وتشذيب لكي يقتربوا من مرحلة الملائكة الحضاريين كما نراهم في سويسرا حاليًا أو في النرويج والدانمارك وبقية البلدان الإسكندنافية الراقية. وهذا يعني أن التسامح حالة مكتسبة عن طريق التثقيف والتعليم والتهذيب والتنوير وسن القوانين الجديدة التي تفرض علينا جميعًا احترام كرامة الإنسان الآخر أيًا يكن أصله وفصله أو دينه وطائفته ومذهبه. وهذا موقف جديد في تاريخ الفكر ويشكل قطيعة كبيرة بالقياس إلى العصور الوسطى. ولم تحصل هذه القطيعة حتى الآن إلا في المجتمعات المتقدمة.. وبالتالي فالتسامح يتطلب من الإنسان أن يقوم بجهد ذاتي على ذاته لكي يتخلص من ذاته: أي من رواسب العصبية العمياء التي تربض في أعماق أعماقه. ونقصد بذلك التعصب الأعمى لعقائد طائفته التي نشأ في أحضانها وتربى عليها وتشرب عقائدها منذ نعومة أظفاره. وهذه عملية ليست سهلة على الإطلاق بل يرافقها تمزق نفساني ونزيف داخلي حاد. بعدئذ يمكن للمرء أن يعترف للآخرين ببعض الحق في الوجود وصحة العقيدة حتى ولو ظل يحب عقيدته أكثر من عقائدهم. فهذا شيء مفهوم. لا أحد يجبرك على أن تحب عقائد الآخرين مثلما تحب عقيدتك. ولكن بإمكانك إذا ما بذلت بعض الجهد على نفسك أن تتفهم حب الآخرين لعقيدتهم وأديانهم مثلما تحب أنت عقيدتك ودينك. وعن هذا التفهم العقلاني الموضوعي المتبادل ينتج موقف التسامح والقبول بالتعددية. ويساعد على ذلك توسيع المدارك الثقافية والعقلية للفرد عن طريق تدريس مادة تاريخ الأديان المقارنة أو علم الأديان المقارنة في المدارس والمعاهد العليا. وهي مادة غير معتمدة للأسف في معظم جامعاتنا العربية حتى الآن. ولو أننا أدخلناها لعرف الإنسان العربي أو المسلم أن هناك نواة أخلاقية مشتركة لدى جميع الأديان دون استثناء ألا وهي: لا تقتل، لا تسرق، لا تزن، لا تكذب، لا تعتد على جارك، أحب لأخيك ما تحبه لنفسك، أشفق على الفقير والضعيف وابن السبيل... إلى آخر هذه القيم والفضائل العليا الموجودة في الإسلام كما في المسيحية والبوذية واليهودية الخ...”فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر، وأما بنعمة ربك فحدث” كما جاء في الذكر الحكيم.. وبالتالي ففيما وراء الاختلاف الكبير في الطقوس والشعائر بين الأديان الكبرى هناك مبادئ كونية عامة تجمع بيننا كلنا سواء أكنا مسلمين أم مسيحيين أم يهودًا أم بوذيين أم هندوسيين أم كونفوشيوسيين أم حتى مؤمنين فقط بالفلسفة العقلانية التنويرية الحديثة كما هو عليه الحال فيما يخص معظم سكان الغرب المتقدم حاليًا. ومعلوم أن الذين يذهبون إلى الكنيسة ويؤدون الشعائر الدينية يوم الأحد في فرنسا لم يعد يتجاوز السبعة أو الثمانية بالمائة ومعظمهم من العجائز. ولكن هذا لا يعني أن الآخرين ليسوا مؤمنين بقيم أخلاقية محدَّدة. فالواقع أنه لولا تقيدهم بقيم أخلاقية معينة لخربت الدنيا عندهم ولما توصلوا إلى كل هذا العمران والازدهار. نقول ذلك ونحن نعلم أن بلدانهم عامرة متطورة بل وأكثر تطورًا من كل البلدان الأخرى التي تمارس فيها الطقوس الدينية بكثافة. فالعبرة بالأفعال لا بالمظاهر الاستعراضية والأقوال. ينبغي العلم أن القيم التي نص عليها كانط مؤسس الفلسفة العقلانية الحديثة تلتقي بالقيم التي نص عليها الإنجيل أو القرآن حيث تقول الآية الكريمة: “فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره”. وهذا مبدأ أخلاقي كوني ينطبق على جميع البلدان والشعوب. ومن اتبعه في سلوكه اليومي ربح الدنيا والآخرة.

وأخيرًا يرى المؤرخ رينيه ريمون الذي كان رئيس معهد العلوم السياسية في باريس سابقًا والذي توفي قبل بضع سنوات عن عمر يناهز الثامنة والثمانين أن العالم الإسلامي يعيش حاليًا أزمته الكبرى مع الحداثة وسوف يتغلب عليها لاحقًا كما فعلت المسيحية التي عاشت نفس الأزمة في القرن التاسع عشر وتغلبت عليها. وبالتالي فهناك مسافة مائة سنة أو مائة وخمسين سنة بين الأزمتين. فبعد أن كان المذهب الكاثوليكي يكفّر جميع الأديان راح يعترف بها ويعلن احترامه لعقائدها وإيمانها عام 1962. وأصدر عندئذ فتاوى لاهوتية جديدة جريئة جدًا ومضادة للسابقة. وقال بما معناه: إننا نحترم عقائد المسلمين وإيمانهم ونريد أن نطوي صفحة الماضي الأليمة والسوداء إلى غير رجعة. نريد أن نطوي صفحة ألف وأربعمائة سنة من الصدام والصراع. وهذا انقلاب فكري وديني رائع ما كان ممكنًا في الماضي ولكنه أصبح ممكنًا بعد أن تطورت أوروبا وتقدمت على مختلف الأصعدة والمستويات. وبالتالي فالتطور ممكن حتى في الشؤون الدينية ولن تصلح أمور دنيانا قبل أن تصلح أمور ديننا: أي قبل أن نفهم ديننا بشكل صحيح وسليم ومتنوّر. وسوف يجيء الوقت الذي تستنير فيه شعوبنا العربية إسلامية كانت أم مسيحية. وإن غدًا لناظره قريب..

فيما يخص تصريحات بول ريكور ورينيه ريمون وسواهما من كبار المفكرين عن التسامح أحيل القارئ إلى الكتاب الجماعي الصادر في باريس عام 1998 بعنوان: التعصب . لا نستطيع التحدث عن التسامح من دون ذكر المعاكس له: أي التعصب. لا نستطيع أن نفهم هذا إلا في ضوء ذاك. وهو في الأصل يضم بين دفتيه مداخلات المؤتمر الدولي الكبير الذي عقدته اليونيسكو في باريس عام 1997 بالتعاون مع جامعة السوربون. وقد شارك فيه كبار المفكرين من شتى أنحاء العالم. نذكر من بينهم أمبرتو إيكو الذي قال إن التعصب ضد الآخر شيء طبيعي لدى الطفل الذي يرغب في امتلاك كل ما هو موجود أمامه ويعجبه. ولا يريد لطفل آخر أن ينافسه على ذلك. وأما التسامح فهو نتيجة التعلم التدريجي شيئًا فشيئًا. ليس من السهل أن تكون متسامحًا. وهذا يعني أن التعصب شيء فطري يولد مع الإنسان، أما التسامح فشيء مكتسب يُنال عن طريق المدرسة والبيت والتعليم والثقافة. وأما من الجهة العربية أو الإسلامية فقد ساهم في تأليف هذا الكتاب الممتع كل من المفكر التونسي محمد الطالبي والمفكر الجزائري محمد أركون. فالأول قدم بحثًا بعنوان: التسامح والتعصب في التراث الإسلامي. أما الثاني، أي أركون، فقدم بحثًا بعنوان: التسامح والتعصب وما لا يطاق أو لا يحتمل في التراث الإسلامي. نسيت أن أضيف إليهما الباحث الجزائري مالك شبل الذي قدم بحثًا بعنوان: التسامح والتعصب على كلتا ضفتي البحر الأبيض المتوسط، الخ..

على أي حال نلاحظ من خلال استعراض كل هذه الأبحاث والمداخلات أن التصور الفلسفي التنويري الحديث للدين يختلف كليًا عن تصور العصور الوسطى والظلاميات الإخوانية التي عشنا عليها قرونًا متطاولة ولا نزال. وبالتالي فليس من السهل تبنيه. يصعب علينا أن نقطع دفعة واحدة مع التصورات الموروثة القديمة. يصعب علينا أن نعترف أن دين الآخرين له علاقة بالحقيقة وليس خاطئًا أو باطلًا كليًا كما كنا نعتقد سابقًا. يصعب علينا أن نعترف بالحرية الدينية بالمعنى الحديث للكلمة: أي حرية التدين أو عدم التدين ومع ذلك تظل مواطنًا. يصعب علينا أن نعترف بمشروعية التعددية الدينية والمذهبية في المجتمع الواحد. فأوروبا كانت أيضًا هكذا قبل أن تستنير وتتحضر وتنتشر فيها الأفكار العلمية والفلسفية على أوسع نطاق. ينبغي الاعتراف أن المفهوم الانغلاقي القديم للدين يؤدي إلى صدام الحضارات، هذا في حين أن المفهوم الحديث المنفتح المتسامح الذي تتبناه الإمارات العربية المتحدة مثلًا يؤدي إلى حوار الحضارات بل وتحالف الحضارات وتعاونها المشترك لما فيه خير البشرية.

وأخيرًا سأقول ما يلي: إن انتصار الأنوار على الظلمات في العالم العربي والإسلامي كله سوف يستغرق وقتًا طويلًا. وذلك لأن الظلمات هي المهيمنة على العقول منذ أكثر من ألف سنة. الثقافة الظلامية المتعصّبة هي المهيمنة على الشارع والبيوت والمكتبات والجوامع والجامعات. وبالتالي فلكي تنبثق الأنوار في العالم العربي ينبغي أولًا تفكيك كل هذه الثقافة الظلامية المهيمنة علينا من المهد إلى اللحد. تراث بأكمله ينبغي تفكيكه لكي ينبثق النور من رحم الظلام. على أنقاض البيت التراثي القديم سوف ينهض البنيان الجديد. وهي عملية عسيرة جدًا وشاقة على النفس لأنها تدخلنا في معركة حادة ومباشرة مع أنفسنا. ولكن لا بد مما ليس منه بد..

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

القضاء يأمر بالقبض على نور زهير ويمهل الكفلاء 13 يوماً لجلبه

نائب رئيس مجلس محافظة نينوى يعلن استعداده للاستقالة من منصبه بسبب تعطيل المجلس

الأنواء الجوية: انخفاض درجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

عالمياً.. النفط يعود للانخفاض بعد 3 جلسات من الارتفاع

السوداني يبدأ زيارة رسمية إلى مصر وتونس

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

وراء القصد.. ولا تيفو.. عن حمودي الحارثي

شعراء الأُسر الدينية.. انتصروا للمرأة

العمودالثامن: فاصل ونواصل

العمودالثامن: ذهب نور وجاء زيد

شراكة الاقتصاد الكلي والوحدة الوطنية

العمودالثامن: لماذا يكرهون السعادة؟

 علي حسين الحزن والكآبة والتعوّد على طقوسهما، موضوع كتاب صدر قبل سنوات بعنوان "ضدّ السعادة"، حشد فيه مؤلفه إيريك جي. ويلسون جميع الشواهد التي ينبغي أن تردعنا عن الإحساس بأي معنى للتفاؤل، فالمؤلف...
علي حسين

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

محمد الربيعي (الحلقة 3)التجربة الكوريةتجربة كوريا الجنوبية في التعليم تعتبر واحدة من أنجح التجارب العالمية فقد استطاعت أن تحقق قفزة نوعية في مسارها التنموي، فحوّلت نفسها من دولة فقيرة إلى قوة اقتصادية عظمى في...
د. محمد الربيعي

مركزية الوهم العربي: بين الشعور بالتفوق ونظريات المؤامرة

قحطان الفرج الله مفهوم "المركزية" الذي يقوم على نزعة الشعور الجارف بتفوق الأنا (سواء كانت غربية أو إسلامية) وصفاء هويتها ونقاء أصلها. بحسب الدكتور عبد الله ابراهيم الناقد والمفكر العراقي، الذي قدم تحليلًا معمقًا...
قحطان الفرج الله

تفاسير فظيعة في تفخيذ الرضيعة

حسين سميسم وجد الفقهاء أن موقفهم ضعيف في تشريع سن الزواج، نظرا لضعف الروايات التي اعتمدوا عليها، اضافة الى خلو القرآن من نص صريح يوضح ذلك، فذهبوا إلى التفسير بحثا عن ضالتهم، ووجدوا في...
حسين سميسم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram