TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > الثقافة منقوصةً

الثقافة منقوصةً

نشر في: 17 يونيو, 2023: 10:29 م

ياسين طه حافظ

عبر كل تاريخ الحضارة، في الغرب وفي الشرق، كان مسعى الانسان ابدا الى البقاء حياً. الى البقاء، فرداً او جنساً بشرياً والى امتلاك القوة الفكرية والمادية اللذين يمكنانه من ضمان عيشه وتأمين سلامة حراكه. معنى هذا لحماية مقومات وجوده من احداث الطبيعة كالجدب والطوفان وتقلبات الطقس والقوى الخارجية. وكان المجتمع وكانت تجمعات البشرية واحدة من وسائل التمكن والحماية هذه، بعضاً يحتمي ببعض.

وهنا بدأت تستقر بعض الحقائق، بعض المعارف العلمية، لدى الجماعات وافرادها. وهذه أولى ظواهر المشاركة العلمية بين الافراد. فالمعلومة المشتركة ملكية كل فرد وهو يزرع، وهو يصد انكسار الماء، وهو يطفيء الحريق، و هو يسعف مصاباً.

حتى الان المجتمع متوازن وثمة تعادل بين المشاكل المعتادة وحلولها. لكن التطور الحضاري والتقدم العلمي الحديث قلبا الموازنات في الشرق اكثر مما في الغرب. فالعلوم في الخارج وما يصل منها لنا هو النزر اليسير هذا النزر هو حصة المجتمعات البعيدة ان لم تُحرم منه تماماً اذ لم يعد العلم نتاجاً محلياً معروفاً شائعاً. هذه علوم جديدة ولحدٍ كبير ليست ذوات صلات يومية حميمة بارواح الناس وحياتهم.

هذا يعني بدء العزلة العلمية. فالعلم الحي والمتجدد لابد من ان يكون مرتبطاً بالمسائل التي تشغل المجتمع مادياً وفكرياً.

قد يكون هذا معروفاً وقرأنا مثله كثيراً. لكن الجديد الذي يحيرنا ويشغلنا، ان العزلة العلمية، ان انحسار وبعد الثقافة العلمية ابقتا المجال واسعاً للثقافة الادبية بمستوياتها الشعبية واللغوية. فنحن إذاً أمام مجتمع منشغل باللغة وما يتفرع منها. ونحن منشغولون بالشعر وما قيل ويقال فيه. ونحن نعيد صياغات ما قيل لنا من قبل أو نقوله كما لقنتنا القراءات الجديدة. وهزيل ذلك ومُعادهُ كثير.

المجتمع واجه نقصاً ثقافيا مهدِّداً وواسع التأثير من غير ان ننتبه لخطورة هذا التهديد. لقد بقينا في عزلة عن الثقافات العلمية بمستوياتها البحثية واليومية. وتوسع في الفراغ الادب، والادب بمستواه التحريضي والعاطفي.

هذا أول خلل في التوازن المعرفي ونقص أساس في العناصر المغذية للاستنتاج والتفكير. لم نعد نملك منطقاً علمياً في النظر الى الاشياء ولا نفهم ما نرى فهماً علمياً. ما يزال الفعل للمروي وللإثارة ورد الفعل.

فالعلوم "الشعبية" التي كانت الغاها الزمن او اضعفها. والثقافة العلمية الحديثة معزولة بعيدة. وما تدرّسه المدارس من مبادئ العلوم ليس له فعل يومي. هو لا يدخل في معركة العيش والممارسة العملية. هو غالباً دروس للامتحانات. والمجتمع بلا مجلات ثقافية عامة للعلوم ولا برامج ثقافية علمية واسعة لها شأن علمي واضح التأثير. واساتذة العلوم منصرفون لعملهم وعزلتهم البحثية، وهي نادرة، أو لمحاضراتهم وطلبتهم. فالعلوم ليست في الحياة اليومية. وقد اشرنا الى ان الفضاء الواسع تُرِك للـ "الثقافة" الادبية ولمزيد من العزلة، حتى الفنون ليست في الحياة اليومية والدراسات الفكرية الحرة بعيدةٌ ونادرةٌ هي ايضاً. مؤسفٌ ان العلم ليس الحجر الاساس في الثقافة العامة والتعليم.

وهنا دخلت الايديولوجيات السياسية، وجدت فضاءها، استحضرتها الحركات الوطنية للحرية وللاستقلال.. مما لم يتحقق حتى الآن ولا أراه يتحقق ضمن العلاقات الدولية الجديدة وتطورها واشتباكها.

ليعذرني الاصدقاء في الاحزاب، فانا اقدر جيداً انهم اسهموا في تثقيف جماهير واسعة في الاقتصاد وصراع الطبقات والشأن السياسي الدولي...، لكن هذا لا يمنع حقيقةً اخرى، هي ان الايديولوجيات والثقافات الوطنية بشتى اتجاهاتها اطبقت تماماً على ادمغة الناس مُشكلةً هي والادب باتساعه وسطحيته، قوتين شعبيتين اغلقتا الافاق الاخرى وابعدتا الفلسفات والمعارف والعلوم.

ليس الفكر السياسي مداناً ولكن الادانة لحال الانقطاع عن الثقافات والمعارف الاخرى. المثقف الايديولوجي ما كان عليه ان يظل معزولاً عن الحيوية الحضارية، عن تاريخ الاديان والتطور البشري والفلسفات القديمة والجديدة والعلوم وحركات الاكتشافات الجديدة والثقافة العلمية العامة. هذه تُرصِّن التفكير وتمنح صاحبها قوة فهم واستقراء، مثلما تهبه نسغاً انسانياً دافئاً وآفاقاً واسعة للحياة والحياة المعاصرة تحديداً! فلا يباس عندئذ ولا شراسات وصِدامات وعنفَ اختلافات.

هل يعتقد احد المندفعين، الوطنيين أو أي من غوغاء السياسة، بامكان تحولهم لاستعمال الطلقات والسكاكين، لو اتسعت ثقافتهم الى ما ذكرناه واغتنت انسانيتهم بالذائقة الرفيعة والمعرفة والفنون وبالحضور الانساني الخصب وعبر تاريخ الانسانية العظيم؟ ابداً. بدليل ان المثقفين منهم اشمأزوا من اعمال العنف والحدّية في التفكير، ومن السوء والسفاهة والاخطاء كلها.

حين اقول ان قوتين الجمتا الانسان المحلي هما السياسة والادب، باتساعه وسطحيته الغالبة، وتركتاه ينظر فقط الى امام او الى الطريق الذي وضع فيه ليسلكه، فانا لا انكر الجوانب الكريمة لأيّ منهما، اعني السياسة والادب. بل اريد التأكيد على اغفال او مصادرة الافاق الثقافية والمعرفية الاخرى، او الاستهانة بها، مما أورثَ نقصاً عاماً، وهو نقصٌ أدى الى القراءة الخطأ والفهم الخطأ والوطنية الخطأ!

نعم الفكر السياسي والنضال السياسي كشفا ما يحيق بالبلد وما يخطط له وكيف يتم استغلال ومصادرة او نهب ثرواته. وان الادب، وهو مجد ثقافتنا العربية والانسانية، وسّع المخيلات وغذى نفوس الناس و"امتعهم" روحياً، كما يقولون. لكن هذين "المفيدين" أضرّا حتى حين أفقدا الفرد رؤية جوانب الحضارة الاخرى وابقياه على مبعدّة من حقول المعرفة الاخرى واحيانا عن الفنون كلها بل عن جمال الحياة. فلا اهتمام حقيقي جاد وفاعل بتاريخ الانسان وتاريخ الاديان والافكار والفلسفات ومراحل التطور المدني لتتسع الرؤية وتتنوع وتغتني الثقافة. الايديولوجيا لم تمنع هذا، صحيح. هي لم تمنعه. والادب لم يمنع هذا، صحيح ايضاً. ولكنهما شغلا الانسان عن تلك الثقافات المكمِّلة والاساسية لكل فهم وتطور.

السياسة استغرقت الانسان العراقي، بل استهلكته. والادب، بما هو عليه، استهلك ما ظل من وعيه. هكذا تحددت الثقافة وتحدد البصر والبصيرة. وانت ترى أي منطق للساسة في مناقشة الاشكالات الانسانية، والاجتماعية. وكم محدودة فقيرة هي الرؤى. وأي منطق قاصر لعموم الادباء في فهم الاحداث والظواهر. وما يرددونه ليس قراءاتهم الشخصية ولا الفهم الشخصي المتميز ولكن ما تشيعه الفضائيات وما ينشر "باجور" وبقصد، هذا عن النخب فما تقول عن العامة؟ ما كان يحصل هذا لو اتسعت الثقافة وتنوعت وكانت العلوم والمعارف متاحة للناس بنسبة اكبر. فمن غير جوانب الثقافة الاخرى والالمام المعرفي والفني نظل بلا قدرة استقراء ولا قدرة احاطة وفهم ولا بذكاء يكفي لاستيعاب وفهم الظاهرة.

لو اقتربنا الى ما في العالم من فنون وافكار وهوايات ومظاهر مدنية، إذاً لاختلف السلوك مع الاخر وما استعملنا مع ابناء وطننا النار والسكاكين ولا ظلت الخرافة في ببيوتنا حتى اليوم، ولا بقينا نعيش على الآمال الكاذبة وكأنْ ستتحقق غداً!.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

القضاء يأمر بالقبض على نور زهير ويمهل الكفلاء 13 يوماً لجلبه

نائب رئيس مجلس محافظة نينوى يعلن استعداده للاستقالة من منصبه بسبب تعطيل المجلس

الأنواء الجوية: انخفاض درجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

عالمياً.. النفط يعود للانخفاض بعد 3 جلسات من الارتفاع

السوداني يبدأ زيارة رسمية إلى مصر وتونس

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

وراء القصد.. ولا تيفو.. عن حمودي الحارثي

شعراء الأُسر الدينية.. انتصروا للمرأة

العمودالثامن: فاصل ونواصل

العمودالثامن: ذهب نور وجاء زيد

شراكة الاقتصاد الكلي والوحدة الوطنية

العمودالثامن: لماذا يكرهون السعادة؟

 علي حسين الحزن والكآبة والتعوّد على طقوسهما، موضوع كتاب صدر قبل سنوات بعنوان "ضدّ السعادة"، حشد فيه مؤلفه إيريك جي. ويلسون جميع الشواهد التي ينبغي أن تردعنا عن الإحساس بأي معنى للتفاؤل، فالمؤلف...
علي حسين

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

محمد الربيعي (الحلقة 3)التجربة الكوريةتجربة كوريا الجنوبية في التعليم تعتبر واحدة من أنجح التجارب العالمية فقد استطاعت أن تحقق قفزة نوعية في مسارها التنموي، فحوّلت نفسها من دولة فقيرة إلى قوة اقتصادية عظمى في...
د. محمد الربيعي

مركزية الوهم العربي: بين الشعور بالتفوق ونظريات المؤامرة

قحطان الفرج الله مفهوم "المركزية" الذي يقوم على نزعة الشعور الجارف بتفوق الأنا (سواء كانت غربية أو إسلامية) وصفاء هويتها ونقاء أصلها. بحسب الدكتور عبد الله ابراهيم الناقد والمفكر العراقي، الذي قدم تحليلًا معمقًا...
قحطان الفرج الله

تفاسير فظيعة في تفخيذ الرضيعة

حسين سميسم وجد الفقهاء أن موقفهم ضعيف في تشريع سن الزواج، نظرا لضعف الروايات التي اعتمدوا عليها، اضافة الى خلو القرآن من نص صريح يوضح ذلك، فذهبوا إلى التفسير بحثا عن ضالتهم، ووجدوا في...
حسين سميسم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram