لطفية الدليمي
الكتابةُ أشرفُ من الكلام. لاأذكرُ أين قرأت هذه العبارة التي تشي صياغتها الاسلوبية بانتمائها إلى مدوّناتنا التراثية؛ لكنّ العبارة تكشف عن تفهّم وإدراك عميقيْن. الشرف هنا كنايةٌ عن السموّ والرفعة في المقام والأداء، وهذه الطريقة الاستعارية في إضفاء الشرف على أفعال بعينها هي بعضُ طرائق كبار ناثرينا العرب.
الانسان في بعض توصيفاته المميزة هو كائنٌ لغوي. اللغة واحدةٌ من أهمّ مكتشفاته المفضية إلى رِفعة حضارية وسموّ ثقافي. اللغة ميدان لعب لاحدود لمدياته: هي الوسيلة التي بها نتبادل التواصل مع نظرائنا، وبها نحبّ من نختار أن نحبّه، وبها نستديمُ علاقاتنا الانسانية مع سوانا من البشر في إطار علاقات وظيفية (نفعية) أو خارج أي سياق وظيفي (بعيداً عن أيّ مقصد نفعي). نحنُ مِنْ غير اللغة لسنا شيئاً يذكرُ. سنكون من غير اللغة كائنات شبحية من غير كينونات محدّدة، عاجزة عن ترك أي أثر لها في هذا العالم. سنكونُ من غير بصمة تبرهنُ على مرورنا في هذا العالم.
نتشاركُ جميعنا – بإستثناءات بسيطة غير مؤثرة - في أننا نملك القدرة على توظيف اللغة في هيئة طاقة صوتية نسمّيها (الكلام أو الحديث). القدرة على الكلام بلغة محدّدة تبدو واحدة من ذخائرنا الغريزية التي هي بعضُ هبات الطبيعة لنا. القولُ بغريزية القدرة على الكلام يبدو حتى اليوم أمراً يحوزُ قبول أغلب بحّاثة العالم المميزين في هذا الميدان المعقّد. سيبدو الامر مُسوَّغاً لو تصوّرنا أنّ كلّ قدرة بشرية تعزّزُ إمكانية الفرد على البقاء والاستمرارية والتكيّف المرن مع متطلبات البقاء إنما توفّرها لنا الطبيعة بشكل قدرة غريزية. فكّروا مثلاً في القدرة على مضغ الطعام وبلعه، وشرب الماء عند العطش، والابتعاد التلقائي عن مكامن الخطر المهدّدة للحياة،: هذه كلها أفعالٌ نتشاركها جميعاً أذكياء وأقلّ ذكاء، بيضاً وسوداً وملوّنين، أغنياء وفقراء، نساءً ورجالاً وأطفالاً وشباباً..
أين يكمنُ الشرف في أفعالنا البشرية بحسب توصيفات مدوّناتنا التراثية (أو بشكل آخر: أين تكمن الانعطافة الحضارية حسب المباحث الانثروبولوجية الحديثة)؟ يكمنُ في نقل الفعل البشري من مستوى الفعل الغرائزي المطلوب لإدامة الحياة (بمعنى البقاء البيولوجي والاستمرارية النوعية) إلى مستوى الفعل المقترن بالجهد البشري الساعي إلى ماهو أبعدُ من محض البقاء النوعي والاستمرارية المتواترة. أن تأكل عندما تجوعُ هو محضُ فعل غرائزي عادي يفعله ملايين آخرون سواك؛ لكن عندما تتفنّنُ في وسائل عرض الطعام، وتستخدم قواعد خاصة في الاكل، وتتأنّى في مضغ الطعام ولاتزدرده إزدراداً فهذه كلها أفعالٌ ليست غرائزية بل هي أفعالٌ نتعلّمها بجهد يقلُّ أو يكبر تبعاً لرغائبنا في التعلّم وشغفنا في إحداث نقلة نوعية في طبيعة حياتنا. الكائن الغرائزي يستسهلُ الاعتياد والتكرار والنمطية وماضَرّه لو تعاقبت الليالي والنهارات ملايين المرّات وهو على حاله لايتبدّل. ماشأنه في هذا؟ الحياة عنده هواء وماء وطعام وجنس ونوم وتعاقبُ ليلٍ بنهار. يعملُ بقدر مايلبّي عملُهُ متطلبات عيشه الغرائزي، وماهو أبعد من هذا لاشأن له به.
الافعال الغرائزية مهمّة لأنْ لاحياة من دونها؛ لكنها تبقيك على قيد الحياة وحسب. أما التطلّع صوب المثابات العالية في الحياة - ثقافة وعلماً وحضارة - فتلك أفعال نصنعها بجهدنا الخاص وليست أعطية غرائزية مجانية. المسافة مابين الغرائزي واللاغرائزي هي الطيف الذي ستحدّدُ طريقتنا؟ موقعنا فيه في تشكيل حياتنا التي نرغب في عيشها. ماحجمُ الأفعال الغرائزية واللاغرائزية فيك؟ ذلك الحجم هو أنت.
الكلام فعلٌ غرائزي كما قلت؛ لكنّ الكتابة فعلٌ إرادي مقترن بجهد شخصي. تصوّروا مثلاً لو أنني كنتُ أتحدّثُ إليكم بشأن موضوع هذه المقالة بدلاً من كتابتها. سنكون مخطئين لو تصوّرنا أنني كنتُ سأقولها بمثل ماأكتبها الآن. لو فعلتُ سأكون متكلّفة أخاطب مستمعيّ في سياق يبدو غير طبيعي. لماذا؟ لأنّ السماع فعلٌ غرائزي هو الآخر، وكلّ فعلٍ غرائزي لن يتوافق إلا مع مايناظره من الافعال، وكلّ فعلٍ غير غرائزي سيبدو ناشزاً عليه وخارج نطاق تأثيره المعرفي والسلوكي.
الكتابة شأن آخر غير الكلام. الكائن الذي يروم البقاء في منطقة الفعل الغرائزي هو كائن كسول سيقاتلُ في سبيل المكوث الآمن في منطقة الكسل. ألمْ تختبرْ يوماً أنّ الكائن الذي (رأسماله كلامٌ منطوق) هو أكثر الناس صخباً واهتياجاً وحذلقة وطول لسان؟ هو لايملك غير الكلمات المهذارة والمكرورة، وهو يريدُ جعلها سلاحاً يقاتلُ به للحصول على أكبر قدر من الامتيازات. تراه يناكفُ حتى صاحب الاجتهاد الذي يعلوه قدراً وتحصيلاً، وفي ظنّه أنّ الكلام العالي يغلبُ الاستحقاق الموثّق بالافعال المشهودة.
من يكتب يقلّ كلامه. ليس هذا قانوناً بقدر ماهو حدسٌ ظنّيٌ أرى له مصاديق كثيرة في حياتنا. الكتابة فعلٌ متطلّبٌ وليست طاقة مبدّدة في الهواء. أنت في الكتابة تخطّطُ وتناورُ لكي يكون معروضك من الكلمات بأجلّ وأبهى مايمكن (دعونا الآن من المعايير الاجرائية لبهاء الكتابة وجلالها). الكتابة تراعي معايير الكياسة؛ اما الكلام فينقادُ في أحايين أخرى للاندفاعات العاطفية اللحظية المقترنة بالخشونة اللفظية.
نُقِلَ عن الكاتب النوبلي الراحل (نجيب محفوظ) أنه قال: لاتجعلْ نشوة الكلام بديلاً عن نشوة العمل. العمل هنا هو معادلٌ للكتابة؛ إذ ماالذي كان محفوظ يتقنه من أفعال سوى الكتابة؟ من يتمرّس في الكتابة ستتضاءلُ لديه مغريات الكلام ودوافعه، وستتعاظمُ عنده مناسيب الكياسة والتفكّر والمساءلة وتقليب وجهات النظر والابتعاد عن اليقينية الصارمة والأصولية الخشنة.
أظنّ أنّ الكاتب (الحقيقي) هو أمقتُ الناس للكلام الرغوي الذي ينبعثُ من عقل محكوم بقوانين الغريزة. هل شاهدتم بعض الساسة وهم يتدفقون في أحاديثهم من غير كوابح حدّ أن يظهر الزبدُ على زوايا أفواههم؟ هل لاحظتم كيف يعيدون إنتاج وتسويق بعض المفردات وكأنها صناعة عقل عبقري لم يدركْها بعدُ ساسةُ دولُ العالم المتقدّمة؟ لاحظتُ قبل بضعة شهور أنّ أحد هؤلاء السياسيين يعيدُ مفردة (المُنتظِم السياسي) في أحاديثه، ثمّ لم تلبث أن أصبحت هذه المفردة سياقاً شائعاً في أحاديث رهطه من الفصيل السياسي الذي ينتمي إليه. هو يتصوّرُ أنّ (المنتظم السياسي) فتحٌ فكري عالمي!!
حكى مرّة كاتب عراقي بارع في مهنته أيام كان يعمل مراسلاً لوكالة أجنبية أنه كلّما إلتقى سياسياً عراقياً من الطبقة السياسية موديل مابعد 2003 فإنه يتحدّثُ وكأنه بوّابة سدّ إنهارت وفاضت مياهها. يقول الكاتب أنّ أحدهم راح يتحدّثُ من غير توقّف لعشر دقائق وكأنه في معرض مبارزة لطول النفس في الكلام المسترسل، ولم يترك مفردة إلّا واستخدمها، ثمّ بعد أن شعر بنشوة الظفر والنصر قال للكاتب: مارأيك؟ هل تريد المزيد؟ وكأنّه بائع في (دكان مخضّر) يغريك بشيء من (العوازة) فوق الميزان!!. الكلام عند أمثال هؤلاء سباحة في سائل دبق لاصفات محدّدة له.
الكتابة الحقيقية جهدٌ وتفكّرٌ ومسؤولية لأنّها منذورةٌ للبقاء وليست طاقة يبتلعها الهواء في اللحظة التي تغادرُ فيها فم قائلها.
إنتبه للفيسبوك (ووسائل التواصل الاجتماعي). هذه إشكالية لأنّ أغلب هذه الوسائل التواصلية الجديدة يتساوى فيها المكتوب والمنطوق، وستكون مسؤوليتك الشخصية في هذا المحيط الرقمي أن تفرز الجواهر الفريدة عن المخلّفات الصدئة.