اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > سعدون محسن ضمد في كتابه الجديد..دائرة الوعي المغلقة وغواية السرديات الكبرى

سعدون محسن ضمد في كتابه الجديد..دائرة الوعي المغلقة وغواية السرديات الكبرى

نشر في: 11 يوليو, 2023: 11:52 م

لطفية الدليمي

للسرديات الكبرى غوايتها التي ليس بمستطاعنا التفلّتُ من الوقوع في فخاخها. الغواية كامنة في العنوان.

يكفي أن نعلم بأنّ مانشتغل عليه من أطروحات فكرية ينتمي لفضاء سردية كبرى فذلك سيكون مبعث غواية قد تدفعنا للمسير في طرق غير مستكشفة. بهذا المعنى وبهذه الغاية تكون الغواية مقبولة بل ومطلوبة لأنها ستكون مقترنة بالجرأة الفكرية والشجاعة المعرفية التي تحفرُ في صخر المعرفة البشرية غير المطروقة أو المطروقة بخجل. ربما لهذا السبب كانت السرديات الكبرى عنواناً كبيراً لعصر التنوير والعقلنة ومساءلة الأطروحات اللاهوتية ووضعها تحت مجهر التفكيك والتشكيك، ثمّ حلّ عصر موجة الحداثة التي أعقبت سلسلة من الثورات العلمية والتقنية والفلسفية، وبعدها داهَمَنا عصرُ مابعد الحداثة الذي قزّم من شأن السرديات الكبرى ورأى أنّ الجهد البحثي يجب أن يتوجّه للحيثيات التفصيلية الصغيرة لأنّ هذا أجدى وأفضل للإنسان والمجتمع. هنا يجب أن ننتبه إلى موضوعتين تأسيسيّتيْن بشأن السرديات الكبرى: الأولى هي أنّ السردية المناقضة (أو المضادة) لأية سردية كبرى لها من الغواية الفكرية ماللسردية الأصلية. المسألة تختصُّ بالمزاج الفلسفي والخلفية الفكرية والتأسيس الايديولوجي، وهي في مجملها معالم كيفية قد تتبدّلُ بفعل أهواء محدّدة أو حتى طلباً لتحقيق ريادة أكاديمية وليست بالضرورة مسعى مكتنفاً بالنزاهة. أما الموضوعة الثانية فهي أنّ عرض أو إقتراح أطروحة تأسيسية كبرى أو نقض واحدة سائدة ولاسيما في حقل إبستمولوجيا المعرفة والمنهجية العلمية وأنساق تشكّل المعرفة البشرية ليس مسعى يقترن بالضرورة بالنجاح؛ فقد لايكون أكثر من إطلاق رصاصة طائشة في فراغ!! الجرأة وحدها لاتكفي لخلق منظومة نسقية معرفية متماسكة وبخاصة في حقل شائك عمل عليه عشرات العقول اللامعة في حقول معرفية مشتبكة ومتداخلة.

شاعت في السنوات القليلة الماضية موجة من الكتب والمنشورات التي يطمح كاتبوها لتأسيس أطروحات جديدة أو مناقضة أطروحات قديمة. بتنا نلمح جهداً حثيثاً مثل الحمّى في إشاعة هذه الاطروحات. كتبتُ مرّة مقالة أصف فيها هذا الجهد المحموم فقلت: هل تريد أن تؤسس لك إسماً مثل يوفال نوح هراري؟ خذ أطروحة سائدة، ثمّ قدّمْ نقيضاً نوعياً لها وادعم رؤيتك بمايعزّز أطروحتك. دعونا ننتبه إلى حقيقة أنّ العقل البشري لايعمل بنزاهة مطلقة بل يعملُ بما يوفّرُ راحة لحظية لصاحبه. عندما تتفلّتُ الارادة الشخصية الحازمة فالعقل يعمل بانحيازات مسبّقة لما نسعى لتمريره من أفكار وقناعات ورؤى. سيعلي عقلنا شأن كلّ مايعزّزُ رؤيتنا، وفي الوقت ذاته سيهمّشُ كلّ مايخالف ذلك. هذه مسألة إشكالية معروفة في فلسفة المنهجية البحثية. ربما قرأ معظمنا أطروحات هراري – وهي مهمّة وجوهرية -؛ لكنّ قليلين منّا إطلعوا على النقودات الصارمة التي كتبها بشأن كتبه الثلاثة المنشورة بحّاثة متمرّسون.

أكتبُ هذه المقدمة التمهيدية وأنا أختمُ قراءتي لأحدث كتب الدكتور سعدون محسن ضمد، وهو الكتاب الموسوم (دائرة الوعي المغلقة: مقدّمة في أنثروبولوجيا الوعي). لايخفي ضمد طموحه العالي في التأسيس لمبحث علمي جديد: أنثروبولوجيا الوعي؛ لكن هل هو جديد حقاً؟ وهل هو أنثروبولوجيا الوعي أم محاولة في مساءلة إبستمولوجيا المعرفة؟ سأجيب عن هذه التساؤلات لاحقاً.

الكتاب مكتوب بلغة رشيقة عُرِف بها ضمد في كتبه السابقة، وأظنُّ أنّ دافعية الكتابة لضمد تتغذى من جهده في كسر قشرة الفقاعة الصلبة التي وجد نفسه فيها، وقدرته على مساءلة الثوابت القارة في بيئته الاولى وبخاصة الثوابت الدينية المدعمة بقناعات فقهية تجد حاضنتها الداعمة في بيئة شعبية تعتاش على المرويات الحكائية اليومية. عندما يتعامل ضمد في هذا النطاق (أنثروبولوجيا المرويات الشعبية والميتافيزيقا الدينية) فهو ينجح نجاحاً مبهراً لأنّ عناصر هذه المرويات شكّلت تمثلاتٍ حياتية تؤشّرُ دلالات مفصلية في مسيرة تطوره الفكري؛ لكن يبدو لي أنّ القفز إلى إبستمولوجيا المعرفة تبدو قفزة واسعة النطاق لم يحُن أوانها بعدُ. أظنُّ أننا غادرنا نموذج (كارل بوبر) أو (توماس كون) بسبب تعقيد موضوعتي (الوعي) و (المعرفة) اللتيْن ماعاد من الممكن دراستهما إلا في نطاق مبحث النظم المعقّدة المتداخلة التي تحتاج فريقاً بحثياً متعدّد الاطياف.

عنوان الكتاب مغرٍ وجريء، وأظنّ أنّ ضمد كان قاصداً هذا الاغراء وتلك الجرأة. فور أن حصلتُ على نسخة من الكتاب جلستُ أقرأ بدقة وببطء. نحنُ هنا إزاء أطروحة في إبستمولوجيا المعرفة تستلزم دقّة وتمرّساً في إنتقاء مفردات اللغة وكيفية صياغة العبارات بما يضفي عليها وقاراً فلسفياً يليق بجوهرية الموضوع وفرادته. أمسكتُ بقلم رصاص ومضيتُ أؤشّرُ على العبارات وأرقام الصفحات التي رأيتُ فيها مناطق إشكالية تحتملُ الاشارة والبحث والمساءلة. قرأتً المقدمة وأعدتً قراءتها مرتين وثلاثاً، ثمّ قفزتُ إلى الفصل الاخير (الفصل السابع) الخاص بأنثروبولوجيا الوعي وميكانيك الكم لأنّ له مكانة أثيرة في قلبي، ثمّ عدتً إلى الفصل الأول الذي يناقشُ الاشكاليات وتحديد المفاهيم الاساسية في أنثروبولوجيا الوعي، أما الفصل الثاني فيبحث في تأسيس أنثروبولوجيا الوعي في حين يناقش الفصل الثالث الفرضية الاساسية في الكتاب وهي (فرضية دائرة الوعي المغلقة). تختص الفصول الثلاثة اللاحقة (الرابع والخامس والسادس) بمسألة نشوء الاديان وتطبيق الفرضية السابقة عليها في سياق تشخيص (صورة الإله) في الديانتين المندائية والبهائية، وأعترف أنّ هذه الفصول لاقت إهتماماً من قبلي أقلّ بكثير من الفصول الاخرى. الفصل السابع يختصُّ بتطبيق فرضية دائرة الوعي المغلقة في نطاق ميكانيك الكم كما قلت. تجمّعت الملاحظات والتأشيرات والاقتباسات من الكتاب لديّ حتى بلغت ثلاثين صفحة من القطع الكبير!! نحن هنا إزاء أطروحة تختصُّ بسردية كبرى ولسنا في معرض قراءة سياحية عابرة.

الكتاب منشور حديثاً، ولاأظنُّ أن نشر مراجعة أو قراءة نقدية تفيض بالاشارات والاقتباسات المستلّة منه ستفيد في الوقت الحاضر. أرى أنّ من الافضل ترك فسحة من الوقت (سنة ربما!!) لتتزايد مناسيب مقروئية هذا الكتاب، ثمّ بعدها يمكن مناقشة أطروحته الاساسية مع كلّ متفرّعاتها وجزئياتها.

الاطروحة الاساسية في كتاب ضمد هي أنّ الوعي البشري (والمعرفة البشرية بالتبعية حيث المعرفة نتاج طبيعي للوعي) محكوم بمحدوديات قصوى ناجمة عن طبيعة مدركاتنا الحسية، وأنّ المعرفة المتحصلة بواسطة إحساساتنا تقع في نطاق دائرة رمزية أسماها ضمد (دائرة الوعي المغلقة)، وكلّ معرفة خارج نطاق هذه الدائرة إنما هي معرفة غير متحصلة عن طريق الحواس أو معرفة ميتافيزيقية، وفي الحالتين ليس من سبيل لتحصيل هذه المعرفة سوى بعملية إسقاطية نوسّعُ فيها مدى ووسائل معرفتنا الحسية إلى خارج دائرة الوعي مستعينين بإنعكاس ذاتي للمعرفة (وهو مااختار له ضمد توصيفاً درامياً " اجترار المعرفة "، ولو أنه أسماه أحياناً إسماً ملطّفاً " إعادة تدوير المعرفة "). يخرج ضمد من هذه الاطروحة بنتيجة أن ليس من تقدّم حقيقي في معرفتنا البشرية بسبب هذه الحدود الطبيعية التي لانستطيع الفكاك منها، وهو يلجأ إلى ميكانيك الكم لأنه يمدّه بالوسائل المفاهيمية التي تقول بوجود حدود لما يمكن أن نعرفه عن العالم الذري ومادون الذري (مبدأ هايزنبرغ).

أطروحة جريئة من غير شك. سأقدّمُ الآن بضع مساءلات للكتاب، وأكرّرُ أنّ هذه ليست قراءة أو مراجعة للكتاب. أظنني سأكتب مراجعة مسهبة للكتاب بعد سنة.

1. معضلة الاسماء الفلسفية الكبرى: في موضوعة مشتبكة مثل أبستمولوجيا المعرفة لن ينفعنا كثيراً الاحتماءُ بظلّ فلاسفة كبار من أمثال كانت أو هيوم. نحتاج فلاسفة وعلماء معاصرين على شاكلة دانيال دينيت و روجر بنروز.

2. غواية اللغة وألاعيبها: اللغة إختراع بشري ساحر وغريب وشديد الاغواء. عندما نتحدثُ في نطاق مبحث علمي لابدّ من توصيف إجرائي لنطاق المعاني التي نعنيها. إليكم مثالاً: في تقديم ضمد للكتاب يصف الوعي بأنه (الآلية أو الأداة أو الجهاز الذي أخرج البشر من بيئتهم الحيوانية إلى بيئة انسانية صُنِعت وفقاً لحاجاتهم. الوعي هو الذي خلق اللغة وابتكر الثقافة وكتب التاريخ......). الادبيات الفلسفية الخاصة بالوعي تصفه بأنه خاصية إنبثاقية (أو نشوئية Emergent) ناجمة عن التعقيد الكبير للمادة الدماغية. لاحظوا الفرق بين الوصفيْن. الاول ينطوي على شيء من الدراما، والثاني قاطع صارم يتّسم بالحدية. اللغة لعوب، ويجب الانتباه إلى أن لانغرق في لججها بفعل دوافع قصدية أو غير قصدية.

3. لماذا أنثروبولوجيا الوعي؟ إجتهد ضمد في أن يصف محاولته الجريئة بأنها تقع في فضاء أنثروبولوجيا الوعي، وهو في النهاية منطقة إشتباك بين الفلسفة وعلم النفس والبيولوجيا. أرى أنّ محاولة ضمد تقع في منطقة أبستمولوجيا الوعي (أو المعرفة)، وربما جاءت الفصول الثلاثة الخاصة بنشوء الديانات وصورة الإله لتعزّز الجرعة الانثروبولوجية في الأطروحة.

4. الاديان والإله والعلم: لاأحبُّ أبداً سحب الموضوعات العلمية الخالصة وإسقاطها على موضوعات الدين والإله. ليس من منطقة اشتراك بين الفضائين المعرفيين: الدين والعلم بأية مقاربة اخترناها. الدين ينتمي لفضاء المعرفة المؤسسة على الاعتقاد Belief – Based System of Knowledge في حين أنّ العلم موضوع محكوم بحدود التجربة (في النطاق الاختباري) Experiment – Based System of Knowledge. ماذا ستفعل عندما تتحدث عن جزئية دينية أو عن صورة الإله ثمّ سيأتيك أحدهم مستشهداً بآية؟ يبدو أنّ المؤلف كان حكيماً عندما إختار الديانتين البهائية والمندائية لأنّ فيهما هامشاً من (الليبرالية) الدينية التي تسمح بتناول صورة الإله خارج النطاقات اللاهوتية المغلقة.

5. لماذا ميكانيك الكم؟ صار ميكانيك الكم منطقة بحثية أثيرة في الفيزياء الحديثة وفي العلم بعامة. هناك اليوم (علم الاحياء الكمومي) و (الحوسبة الكمومية). السبب وراء هذه السطوة الكمومية يمكن عزوها إلى أنّ الجذور المفاهيمية لميكانيك الكم وأسس تاريخ تطوّره تسائلُ أعمق الموضوعات الوجودية البشرية مثل طبيعة الوعي وحدود المعرفة البشرية فضلاً عن مؤثراته التقنية (الحواسيب الكمومية مثالاً)؛ ومن هنا صار ميكانيك الكم مادة بحثية أثيرة لكثير من الفلاسفة وعلماء الانسانيات. لكن في كلّ الاحوال من الضرورة توخّي الحذر عند تعشيق مناطق بحثية ببعضها. لن تنجح كلّ الجهود وفي كلّ الاحوال.

6. مصادر البحث: في أطروحة كبرى كالتي يطرحها ضمد لابدّ أن نتوقّع قائمة طويلة من المصادر والقراءات التي إعتمدها الكاتب. أتوقّعُ لو أنّ كتاباً مثل هذا صدر عن جامعة هارفرد أو كامبردج لكان ربعه مخصصاً للمصادر. نحن إزاء أطروحة متسمة بالجرأة؛ لذا لن تكفي القراءات المتقادمة المترجمة إلى العربية.

* * *

أنت قد تتفق أو لاتتفق مع أطروحة ضمد؛ لكن ليس بوسعك نكران دأبه وشجاعته. أنا من جانبي أرى أنّ مثل هذه الاطروحة ربما كان من الافضل تنضيجها لعشر سنوات قادمات على نار التفكّر الهادئ والقراءة الحثيثة في كتب ومصادر تنشرها كبريات الجامعات الرصينة. ليس عملاً يسيراً أن يقدّم المرء أطروحة تقول بأننا كائنات نعيش في دائرة مغلقة من الوعي، وكلّ مايمكننا فعله هو إعادة تدوير معرفتنا بوسائلنا المعروفة.

القبول الساذج بالاطروحة ليس مقاربة نافعة، وكذلك هو الموقف الناقد على أساس آيديولوجي مسبّق من غير مناقشة للفكرة. أتمنى أن يجد الكتاب مقروئية واسعة لما ينطوي عليه من أفكار حتى لو لم نتفق على أطروحته الاساسية. الاصل أن ترمي حجراً في المياه الراكدة بدلاً من أن تجلس على الشاطئ وتبدّد وقتك في صناعة عمائر رملية سرعان ماستتلاشى...!!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ليفربول يخسر وديا أمام بريستون

مجلس الخدمة ينشر توزيع حملة الشهادات والاوائل المعينين حديثا

البرلمان يشكل لجنة إثر التجاوزات على اقتصاد العراق وأراضيه

بايدن يرفض دعوات الانسحاب من الانتخابات الامريكية : انتظروني الأسبوع المقبل

وفاة محافظ نينوى الأسبق دريد كشمولة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram