أحمد ثامر جهاد
"يمكن لرجل متنور بمفرده ان يؤذينا اكثر مما يفعل جيش من البرابرة"
لُقب بالفيلسوف الملعون او شهيد اللانهاية (اعتقادة المبكر ان الكون لانهائي) لشدة ما واجهه من قسوة وتعنيف جراء آرائه الجريئة وفكره الحر الذي تحدى به كنيسة روما.
ولد برونو قرب نابولي 1548 انضم لصفوف الرهبنة في شبابه، لكنه سافر لاحقا الى عدد من دول اوربا لتلقي دروس في الفلسفة والعلوم واللاهوت، وقد درّس تاليا في بعض جامعاتها ليعود عام 1591 الى البندقية بدعوة من احد اصدقائه التجار والذي سيخونه لاحقا متهما اياها بممارسة السحر الاسود والهرطقة. من هنا تبدأ رحلة عذاب الفيلسوف المتمرد الى حين صدور الحكم بحرقه عام 1600 ليتحول مكان اعدامه الى مزار في مطلع القرن العشرين حيث ينتصب تمثاله في ساحة كامبو دي فيوري.
في هذه الدراما التاريخية يبرع المخرج الايطالي" جوليانو مونتالدو" في رسم سيرة ذاتية مكتملة الصنعة والتأثير للفيلسوف وعالم اللاهوت "برونو" الذي تكشف سيرته المريرة عن استبداد محاكم التفتيش وزيف قيمها، فعقب سبع سنوات من السجن تخللتها تحولات في السياسة والمجتمع في عموم اوربا يشار اليها في ثنايا الحوار الرصين الذي استندت اليه شخصيات الفيلم، تصبح قضية برونو متعبة للمحكمة ومثيرة للانقسامات فوجب حينها الخلاص منه بتهم تلخصت بـ: ترويجه لآراء مخالفة للكاثوليكية والسيد المسيح ورفض الثالوث والتشكيك في عذرية السيدة مريم وإنكار وجود الجحيم والإيمان بتعدد العوالم وخلود الكون ولانهائيته". يمكن القول انه احد افضل الافلام التي تصدت -باسقاطات معاصرة-لمعالجة مصائر العقل التنويري والفكر الحر في مواجهة سلطة الكنيسة منذ رائعة كارل دراير التعبيرية "آلام جان دارك."
يركز الفيلم في نصفه الثاني على دفاع برونو عن نفسه امام اعضاء المحكمة وبيان ان عمله كان في ميدان الفلسفة والعلوم وليس في ميدان العقائد والايمان، وان كان هناك من يعتبر ان من نتائج جداله وكتبه المجدفة زعزعة العقيدة الايمانية للمسيحيين.
بقدر ما في هذا الفيلم من لحظات مؤثرة، لاسيما المشاهد التي تظهر البلبلة التي اصابت مجمع الاساقفة المسؤولين عن محاكمته لتاثرهم بافكاره وعدم قدرتهم على المجاهرة بها، فان المشاهد الاخيرة للفيلم لا يمكن ان توصف الا بكونها تجربة مشاهدة خانقة وأليمة.
مع فريق عمل سينمائي محترف عمل المخرج "مونتالدو"على استثمار وتوظيف كل عناصر الفيلم لانتاج تحفة متكاملة، لم لا والانتاج لكارلو بونتي والتصوير للعملاق فيتوريو ستورارو والموسيقى لإنيو موريكوني اما اداء شخصية برونو فقد جسده ببراعة الممثل جيان ماريا فولنتي.
وسط حماس الجموع البشرية التي تراقب بحذر، يتصاعد دخان الجسد المقدس بطيئا صوب السماء، ثمة من يعتقد ان الرب اشد رحمة من اوليائه.. هل ندم برونو على افكاره؟
لا خلاص لك.. لقد انكرت قداسة المسيح واتهمت كنيسة روما بالجهل والفساد، احتقرت مجمع الكرادلة وحرضت الناس على ارتكاب المعاصي. خانك اقرب اصدقائك، ووصفك الناس بالزنديق.
اية رحمة تترجى نيلها من محكمة تحكم باسم الرب؟
في لحظاته الاخيرة كان برونو يشبه القديسين الذين يعانون ويتألمون ويموتون من اجل ايمانهم.
لقد انجرفت الروح بعيدا عن عذابات الجسد.
والكل كان يغط في صلاة عميقة.