علاء المفرجي
كان ثامر مهدي آخر من أشر لنا تلويحة الوداع من مغتربه في هاليفاكس الكندية، ستيني أخر من الجيل المتوثب والمثقف، والذي أحدث تغييرا مفصليا في الثقافة العراقية، والتي مازالت هذه الأجيال تنهل من عمق ما قدمه في كل صنوف الابداع: في الشعر، والموسيقى والقصة والرواية والرسم، وحتى العمارة.. الخ، الأكاديمي والسيناريست والمثقف الكبير، الذي توفي عن 81 عاما، في غربته.
لم يكن اسم ثامر مهدي عابرا بالنسبة الى جيله، حفراً في الثقافة، وعطاءً واضحا، حيث اصطف في جموع الطليعة الستينية الأولى القاصدة للتغير في ملامح المشهد الثقافي العراقي، لتحفر عميقا فيها، ليتجلى عطاء ثرا ومتميزا، حيث بدأ نشر بين 1963و1966 مجموعة قصص قصيرة في مجلة "العاملون في النفط" التي كان يرأس تحريرها الراحل جبرا إبراهيم جبرا.
قبل أكثر من ربع قرن اختار مجبرا العزلة، ليس فقط باختياره المنفى البعيد، حسب، بل لأنه كان بصدد إعادة النظر بمسيرته الثقافية ومنجزه، وربما لا يعرف جل هذا الجيل أسم ثامر مهدي، أو أطلعوا على منجزه الثقافي، بسبب هذه العزلة، التي وصل فيها الى قناعة –بحسب ما أورده لأبن عمه الناقد والروائي المهم سعد هادي في حوار اجراه معه مصادفة-بأنه لم يكن منصفاً مع مجايليه وطلابه عندما كان يستخدم معايير رفيعة وصارمة للحكم على أعمالهم. فـ "العناصر الثقافية في بلداننا لا تقل شأناً عن مثيلاتها في البلدان المتقدمة إذا أتيحت لها الفرص التي تمنح هناك".
كان يدرس الفلسفة نهارا في كلية الآداب، وفي المساء يدرس المسرح في معهد الفنون الجميلة، هل كان ذلك مصادفة في أن يجمع هذين الجنسين المعرفيين في أن واحد؟ الفلسفة والدراما، هل ميل للمعرفة ليس إلا؟ ام تراها رؤية عميقة للعلاقة الازلية بين الاثنين؟ ثقافته الموسوعية تسمح بلا شك لكل هذه الخيارات.
في معهد الفنون الجميلة زامل خيرة فناني العراق فيما بعد: قاسم حول ومنير عبد الأمير وطعمة التميمي وفخري العقيدي وأحمد فياض المفرجي وسواهم، لكنه سرعان ما ترك المعهد ليس للأن الفن ما عاد يستهويه، بل لأنه تفوق بالفلسفة، حيث حصل على المرتبة الأولى، ليُعين معيدا في الكلية التي درس بها.. ولم يأخذه هذا الإنجاز العلمي من واحة الفن، ليصاف إبراهيم جلال العائد توا من اميركا، ليكون مساعده في أحد أهم أعماله "كاليغولا" لألبير كامو عام 1965وفي تمثيلية أعدها للتلفزيون عن مسرحية لبيرانديللو بعنوان "الفخ" وقد أخرجها حينها خليل شوقي وقامت ببطولتها الراحلة زينب. ليصبح عضواً في فرقة المسرح الفني الحديث، وواصل كتابة المقالات النقدية في الصحف العراقية، كتب في تلك الفترة (فائض عن الحاجة) وهي المسرحية الوحيدة له، التي وأخرجها للمسرح العمالي، قبل أن يعتزل المسرح، أو الكتابة للمسرح.
بداية السبعينيات كتب سيناريو فيلم الظامئون ليصنع مع محمد شكري جميل واحدا من اهم نتاجات السينما العراقية على الإطلاق، والذي كان فيه السيناريو العنصر الأهم في نجاح هذا الفيلم.
أعيد للتدريس أستاذاً للفلسفة والفن في آن واحد، بعد سجنه بتهمة ملفقة (وما أكثرها) في تلك الفترة. يقول لسعد هادي في حواره الذي اشرت إليه: "لقد أضافت إلي تجربة تدريس الفلسفة خصوصاً رسوخاً في الموقف الفكري وصقلت مشاعري وأرهفت إنسانيتي، مثلما حرضتني على العودة دائماً إلى الأصول لفهم حركة التاريخ وتحولات المجتمع".
وكان الراحل قد أصدر كتابه "من الفلسفة إلى الأسطورة" عن "دار الشؤون الثقافية" في بغداد. وبعدها بستّ سنوات حصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة بغداد عن رسالته "منطق الحكم الجمالي".