طالب عبد العزيز
اكتشفْ الحديقة، اذهبْ لآخر أنفاس الورد فيها، وخذ الساقية الصغيرة الى حيث تقفُ، في الزاوية الظليلة تلك، هناك تراب لم تطاه قدمُ أحد من قبل، وفي المهمل من الضوء تستريح منْ ما تزال على عريها، خذ مُلاءة الخوف عنها، وتقدَّم منها بملاءة الرضا. تحت شجرة التوت بقيا مما تخاصمتما عليه العام الماضي. أوقظها بقبلة، وارفعها بعناق، فالطريق الى السرير سالكة، نؤْ بأجمل ما حملت في يديك، أنت أحقُّ من الخريف بتجريد الغصون.
2
الطريق التي تدلُّ عليكِ تدلُّ عليكِ أيضاً، والذين ذهبوا الى الشمال ذهبوا الى الشمال كذلك، ومن الجسر تفارقه يداكِ، ما فتأتْ تفارقه، تأتي ذكرى ثوبها من الذهاب، ومن الايّاب تأتي، وكما هي الافاريزُ تُمسِكُ بها تُمسكُ بكَ. والى أين أنت آخذٌ الليل، سأكون حيث أنت، لأنني عقدتُ حبل المسرات على خصري، وأضعتُ عربة الضوء، حيث لم يضع أحدٌ عربةً من قبل. يتسقلكِ ياسمينُ السياج لأنك الضوء، الذي لم يكُ ضوءاً حسب، ويتكسرُ تحت بطنك زجاج الندم، فلا يمرُّ الوقتُ إلا أحمرَ لزجاً، ويتخطاك ذئبُ الإنتظار إلى البريّة، لِمَ أخذتِ ثورَ العناق الى زريبة الخجل؟ منذ ثلاثين ونيّف وأنت تحملين الى السرير وسادتك الناصعةً، لم تنل منها قرونُ قبل الفجر، ولم تنهشْ كتفيكِ أصابعُ الجنون.
3
آخرُ فزعٍ لي كان بطنك البارحة، وآخرُ عهدي بالفراق قبلة. قبل عطرك ما كنت أحسن الظن بالاباريق، وقبل شعرك لم اتخذ الليلَ مُلاءةً، أول عهدي بالورد رقبتك، وآخرُ ممعنٍ بالغياب فرسُ نحولك، خارج حيطان جسدك لا معنى لوصول. وداخل أسوار عينيك لا معنى لغياب، لا، لم أكُ حزيناً كما يجبُ، فقدتُ ذراعك في حربي مع النسيان، ليس الا، ولم أكُ سعيدا كما ينبغي، بنيت منزلا على النهر، وأنتظرتك، حسب، ولم أكُ ثريا كما يظنُّ كثيرون، عندي من بلابل حضورك عشرٌ، ومن حقول غيابك ما شاء الله من اللقالق، أيتها المقبرةُ، لم اكُ يتيما ما فيه الكفاية، أخذت القطاراتُ أغنيتي حسب.
4
يتبقى من قميصِكَ على الحبل ما كنتَ تُهمله،أنتَ تأخذُ ما لستَ تاخذه من النهر، وتسحبُ حبلَ الليل فينقطعُ الليل، أنتَ لا تعلم من الحبال إلا ما ينقطع بالشجن والغياب. كل عرجون يتدلى بين يديك أبٌ، وكل ليمونة تعصرها وجهُ أخٍ يموت، وكل أرجوحة تقذفُ بك ضحىً لا يتكرر، ولا يعود، الذاهبون الى النهار علقت أسماؤهم بالنخل، والعائدون من الليل لم تنصفهم الانهار، والمطر الذي أزحته عن رقبتك سيظل مطراً هناك، أنت تاخذ نصف الريح ونصف الانتظار من سنأخذُ بيده الى التوت يا ترى؟
5
لا أمتدح الأزمنة. المديح للمكان حسب. شجرة الأكاسيا بالحديقة في ضاحيةٍ بالأعظمية صفراء تحت الشمس، ومتاجر ثياب العرائس في المنصور أكثر مما يحصه المتبضعون، من أراد أن يغيّر شكل الماء في البحيرة فليفعل، ومن لم يعثر على أغنيتهِ في الضوء فليفتش في خريدة الظلام عن قلبه، ومن كانت ضالته في الآجر حسب فليأخذ منه ما يشاء. النساءُ البديناتُ يودعنَّ الاملَ في خزانة الوقت، والليل لم يقم من نهاره بعد. لكنَّ الفتّية في الضاحية، ذاتِ الضوء، مازالوا في أسرتهم بعد، يتصببُ الحليبُ في قمصان أمهاتهم، ثمة من يلقي باللائمة على ورد السياج، وهناك من يبحث في المعجم عن كلمة مناسبة. لا المركبة الفارهة، ولا الباب الحديد، يرصدها الجندي، ولا الكرسيُّ في الحديقة العامة، كلهم يكذبون.. على حافة الرصيف، في الفضاء الرطب حيث ينتصب عمودُ الرخام، يتذكرُ الايدي، التي رفعته، ظلت الرِّيحُ بيضاءَ تصفع وجوه الاطفال عند البحيرة، وكنتَ اللحظة المنسية في توقيت العناق.