اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > نيتشه والبرميل المتدحرج

نيتشه والبرميل المتدحرج

نشر في: 22 يوليو, 2023: 10:40 م

كه يلان محمد

بخلاف ماكان عليه الأمرُ في العصور الغابرة لم يعد الفلاسفة يخافون النفي ولا المطاردة والسبب حسب تفسير الباحث الأمريكي وليم ب.

إرفين هو أنًّ الحكومات قد أصبحت متنورة كما أنَّ الفلاسفة يستهويهم التواري عن الأنظار. نعتقدُ بأنَّ ما يذهب إليه ُ إرفين إليه غير مقنع لفهم محدودية دور الفلاسفة،فالأنظمة بغض النظر عن خلفيتها الآيدولوجية لاتتساهل مع الأفكار المزلزلة ولم ينعزلْ أصحاب الأفكار عن طيب الخاطر بل قد تكون لغتهم لاتواكبُ مع وقائعيات جديدة، لكن وسط هذه الأجواء التي تثيرُ الشكوك بفعالية أو جدوى العقل الفلسفي يشد الفيلسوف الألماني نيتشه الاهتمام على نطاق واسع.ولا يصح أن ايفهمُ هذا الموضوع باعتباره مجرد تسديد الدين لشخصٍ لم يُنْصفْ في عصره.بل لأنَّ صاحب "هكذا تلكم زرادشت" واضحُ وجرىء في تشخيص أعراض المُعاناة الإنسانية ومايعنيه إرجاء الحياة من الكوارث بالنسبة للفرد والمجتمع.هذا عن كشفه للغطاء عنسرداب من المشاعر التي مافتيء الإنسان ينكرها تحت مسميات شتى.يتناولُ الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفراي في كتابه "الحكمة التراجيدية" أفكار نيتشه ساعياً إلى الإبانة عن خصوصية صوته الفلسفي مُتطلعاً إلى حسن توظيفه بعدما أسيء إليه في حقبة تاريخية معينة.يسردُ أنوفراي في المقدمة قصة كتابه عن نيتشه فقد كان مخطوطه مرمياً في الركن لردح من الزمن قبل أن يرجعَ إليه والسؤالُ يأخذ بتلابيبه هل تعدُ هذه الصفحات خطأً من خطايا مرحلة الشباب؟ ويؤكدُ في ذات السياق بأنَّه لم يحذفْ من المضمون وما يقوله ضمن هذه الحيثيات يوحي بأنْ نيتشه له الأولوية في مشروعه الفلسفي، والأهمُ في هذا الإطار هو مايستخلصُ إليه المؤلفُ بأنَّ الفهم الفعلي للفيلسوف لايتمُ إلا بالنظر إلى مغامرته الحياتية الذاتية وبالبطع تتمثلُ سيرة نيتشه لهذه القاعدة أكثر من غيره.ومن الواضح إنَّ انتماء أونفرى إلى التيار اليساري لم يحول دون التعمق في عالم الخصم اللدود للإشتراكية الماركسية لأنَّ نيتشه حسب قراءته من الفلاسفة القلائل الذين تتيحُ لك رفقتهم وعشرتهم فرصةَ بناء كيان وجودي، ويعلنُ أونفراي قائلاً بأنَّه لايستخفُ بالخصوم إذا أتاحت له انتقاداتهم معرفة صورة أفضل عن نفسه.لاشكَّ إنَّ هذه المرونة تُجنبُ العقلَ من مغبة الانزلاق نحو شرك الجمود والتآسن.والاستنثنائي في روح نيتشه يتمثلُ في نبذه للوصايا التي تنصُ على التزهد وفصل الجسد عن طاقاته الحيوية فهو يحتفي بديونيسوس وبكل ما يكثف التذوق بالحياة.والمسرح، والموسيقى، الكتابة، والرحلات، والاستعمال المفرح للجسد.وهذا مايجعلُه متفرداً من بين أقرانه، ونبرة شذراته البليغة لاتُشبه معجمهم الاشتقاقي ولا تنظيراتهم المجردة

سوء التوظيف

وهذا ليس كل مايمكنُ قوله عن قراءة ميشال أونفراي لفيلسوف المطرقة بل الملمحُ الأبرز في منهاجه هو عدم تقيد بالتفسير الأكاديمي إذ يؤثرُ تقديم صورة منسقة عن نيتشه بمعزل عن نسخ متعية أو يسارية أو تحررية علماً بأنَّه من السهل إيجاد مسوغات لكل ذلك من خلال الاقتباسات المنتزعة من سياقها النصي.يعتقدُ ميشال اونفراي بأنَّ العوامل العديدة قد تدخلت بيننا وبين نيتشه منها الحرب العالمية الأولى والثانية والآيدولوجيات والتأويلات المشوهة إضافة إلى الدور التدميري لشقيقته إليزابيت فورستر فهي سوقت بالتطواطؤ مع الماكينة النازية للخلط المُضلل بين المهاترات الشعبوية ومفمهوم إرادة القوة والإنسان الأعلى.وتضرب بوصية أخيه عرض الحائط عندما طلب منها بأنْ يُدفن بعيداً عن جلبة الفضوليين والكهنة وهي تشيعه في أجواء كهنوتية بامتياز، بعد التحكم بجسد نيتشه قد تفرغت إليزابيت لأوراقه ومسوداته فصنعت من أخيه مفكراً يمكن للمعسكرات المعادية لمعسكره تطويعه لصالحها، والأسوأ في سلسلة التعسفات التي اقترفتها اليزابيت بحق شقيقها حسب رأي أونفراي هو الترويج لفورهر بأنَّه نسخة من الكائن المتفوق الذي كان يؤمنُ به نيتشه.ولم تكتفِ بذلك بل أهدت لسيد الرايخ الألماني الجديد العصا التي تعود إلى صاحب "العلم المرح" ومن ثمَّ يبادرُ جيش من المفكرين لتكريس صورة نيتشه مرتدياً زي الضباط النازيين كما أخذ لدى الماركسسين مثالاً للمفكر الرأسمالي والبرجوازي المضمحل وملاك العقارات.ضف إلى هذه التوظيفات المسيئة لمشروعه الفلسفي المُعاناة التي كابدها نيتشه في حياته مع المرض والوحدة ستدرك بأنَّه كان مُحاصراً من جميع الجهات.

الخصومة

يقولُ أونفراي بأنَّ المؤسسة الفلسفية لاتُحب نيتشه ولاترتاحُ بالفرادة لذلك تفضل حراس القيم.ومن المؤكد أنَّ القفز على الأسيجة دائماً يثيرُ عاصفة من ردود الفعل المُستنكرة.ولاشيء أكثر مدعاة للسخرية من توظيف نيتشه لأغراض سياسية لأنَّ الحقل السياسي لاتعملُ فيه غير العقول الوضيعة لذا فقد دعا إلى الابتعاد عنه والمُحافظة على النقاء من الأدران المتأصلة في هذا المُستنقع.وتستشف مما يصرحُ به على لسان زرادشت بأنَّه كان رافضاً للحرب والاحتفال بسفك الدماء "كانوا يستلهمون جنونهم ليعلموا الناس أنَّ الدماءَ تقوم شاهدة الحق، وقد جهلوا أن أفسد شهادة تقوم للحق إنما هي شهادة الدم لأنَّ الدم يقطر سماً على أنقى التعاليم فيحولها إلى جنون وأحقاد"ولاترتقبُ فلسفة نيتشه من الشعب المُصاب بالتعصب السياسي والقومي سوى الانسخاف في وحل التبلد.وتقع في أدبيات فيلسوف الريبة على التحذير من الركون إلى أي شخص، وإن كان أحب الأشخاص إلينا فكل شخص هو سجن وانزواء أيضاً ولايعادلُ هذا الخطر إلا الركون إلى الوطن وإنْ كان أشدَّ الأوطان معاناة وأحوجها إلى المعونة،لأنَّ الوطن في المُحصلة الأخيرة ليس أكثر من بلاغة المُتحاربين الأميين،وهذه المبادىء التي تقومُ عليها فلسفة الإرادة والانعتاق من القيود لاتتناغمُ مع الآيدولوجية النازية وأمثالها من الأنظمة الشمولية.

.حكمة الضحك

.مايضاعف من حرارة هذا النص أنَّ ميشال أونفراي تناول فلسفة نيتشه بلغة واضحة تكشفُ عن عقلية سائحة في مجرةٍ من الأفكار المُتناثرة في مؤلفات فيلسوفه الأثير. ومن المعلوم أن قيمةُ نيتشه لاتكمنُ فحسب في انشقاقه عن تاريخ الفلسفة المُثقل بالأنموذج وشنه حرباً لاهوادة فيها على المُحنطات الفكرية.بل يستمدُ نبوغه من الالتفات إلى ماهو من جوهر الحياة ولكن نادراً ما تصادفهُ على طاولة سدانة الحكمة.ومن يتصدرُ تراتبية سلمه في تصنيف الفلاسفة هو الأقدر على الضحك الذهبي وترى على رأس قائمته ديوجين، وإمبييدوكليس، ومونتاني ومن المعروف إنَّ نيتشه يتقاطع في هذا المنحى مع نظيره اليوناني ديموقريطس فالأخير كان يعتقدُ بأنَّ الضحكة هي لسان الحكمة وما يكسبُ النفسَ خفةً في برنامج نيتشه هو الرقص المرتبط بالضحك لذلك يعدُ كل يوم لايرقصُ فيه الإنسانُ ولو مرة واحدةً يوماً مفقوداً والحكمة التي لاتستدعي ولو قهقهة ضحك ليست إلا بياناً باطلاً.يعلقُ ميشال أونفراي على مفهوم الرقص لدى نيتشه موضحاً بأنَّ هذه الحركة هي خداع للمكان واستهزاءُ بالثقل ولعبُ مع الجسد والأحجام، ومحاكاة للطيران.وللموسيقى منزلة مرموقة في أجندة هذا المشاء المُصاحب لظله إذ صرح بأنَّ الحياة المُفتقرة إلى الموسيقى هي خطأ وعمل شاق ومنفى.

عاصفة الشك

يطيب للمؤلف الاسترسال في التأمل للفتوحات النيتشوية وسحبه الضوء نحو أصقاع تغافل عنها المغامرون في جغرافية الفكر.فإنَّ نيتشه في طليعة الفلاسفة الذين أدركوا دور الأطعمة والمُناخ على المزاج والعقل يقولُ في "هذا هو الإنسان" بأنَّ اهتمامه بالنظام الغذائي يفوق دقة أي لاهوتي. لافتا إلى علاقة التحرر من أخلاقيات مُتشنجة بانواع الأطعمة. إلى هنا رُبَّ صوتٍ يتدخلُ ملمحاً إلى أنَّ الاسترسال في الحديث مملُ ومن الضروري الاكتفاء بكتابة مقولة تفيدنا في حياتنا اليومية. تلبيةً لهذا الطلب يقفلُ القوس بنصحية نيتشه "لنكنْ شعراء حياتنا ولنكن كذلك في أدقِ التفصيلات وأكثرها ابتذالاً" يتدخلُ الصوتُ من جديد مستفسراً هل هذا كل ما عليك القيام به لتكون نيشتوياً؟ هل أنت من دعاة النيتشوية؟ أن تكون نيتشوياً يعني أولاً أن تغدوَ نفسك وتمشي لوحدك ولايرتجفُ قلبك من النظر إلى سماءٍ مُثقلةٍ بغيوم داكنة.وأن تقولَ نعم للحياة وتصنعَ من أيامها المُتشابهة ماهو استثنائي.وتمتحن العقائد والثوابت والكتب بعاصفة من الشك.أما عن الدعاة والدعوية فهذا لايتفقُ مع روحية نيتشوية لأنَّ التلميذ لايحسن مكافأة المعلمِ إذا ظل فاغراً فمه بما يسمعُ منه. كان نيتشه يمقتُ الوعاظين وحماة الأخلاق والقيم لأنَّ هؤلاء يدوسون مايتنطعون لتقديسه.

خارج النص

إذا كان من المناسب أن أقترح لكم مايفيدُ ويرفع عنكم االإرهاق فبالتاكيد أقترح مُقاطعة نيتشه ليس لأنَّ الذكاء الاصطناعي قد طوى زمن الفلاسفة كطي فوكوياما لسجل التاريخ.بل توفيراً لعناء الاصطدام مع الظواهر المرضية التي استفحلت في البيئة المُجتمعية هل تخوضُ معارك دونكيشوتية؟! ومن ثمَّ ألا ترى بأنَّ في تبعيتك للديناصورات المعاصرة وأنت تترنمُ بمقتبسات من كتب نيتشه تسيء إليه وتجعلُ من فلسفته مسخاً وتهريجاً؟! وتدحرج به مثل البرميل نحو زمرة المشعوذين؟. يقاطعني الصوت ساخطاً إذا كان الوضع على هذا المنوال لماذا تصدع رأسنا بالكلام عن نيتشه وتبثُ في عقولنا سمومه؟ صحيح أن وقتك أثمن من أن تضميه في قراءة المقال ولكن يشاركني المحرر في الجرمِ لأنَّه نشر ماكتبته.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ليفربول يخسر وديا أمام بريستون

مجلس الخدمة ينشر توزيع حملة الشهادات والاوائل المعينين حديثا

البرلمان يشكل لجنة إثر التجاوزات على اقتصاد العراق وأراضيه

بايدن يرفض دعوات الانسحاب من الانتخابات الامريكية : انتظروني الأسبوع المقبل

وفاة محافظ نينوى الأسبق دريد كشمولة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram