د. قاسم حسين صالح
في ( 6 اكتبوبر 2020) نشرنا موضوعا بالعنوان اعلاه.. والتساؤل:
هل ما يزال الحال على حاله في (تموز 2023)؟
على مدى عشرين سنة (2003- 2023) أثبتت الأحداث اننا في العراق لدينا حسينان،(حسين) السلطة وحسين الناس،(حسين) الحكّام وحسين المحكومين،(حسين) الخضراء وحسين ساحات التحرير، (حسين) قتلة أنصاره،وحسين شهداء شعاره(هيهات منّا الذلّة).
وما يدهشك ان ثورات عظيمة في التاريخ، باتت الآن منسية،فيما ثورة الحسين تتجدد وتبقى خالدة رغم ان القائم بها كان رجلا واحدا،وانه مضى عليها اكثر من الف عام..والسبب هو ان موت الضمائر وتهرؤ الاخلاق والزيف الديني هي التي تشطر الناس الى قسمين:حكّام يستبدون بالسلطة والثروة،وجماهير مغلوب على امرها..فتغدو القضية صراعا ازليا لا يحدها زمان ولا مكان،ولا صنف من الحكّام او الشعوب.ومن هنا كان استشهاد الحسين يمثل موقفا متفردا لقضية انسانية مطلقة،مادامت هنالك سلطة فيها:حاكم ومحكوم، وظالم ومظلوم،وحق وباطل.
وقضية اخرى لم ينتبه لها كثيرون،ان ثورة الامام الحسين تنفرد بتعدد النظريات التي تفسر اسبابها،والشائع منها تمنحها هوية سياسية او اسلامية فيما الهوية الحقيقية لها انها ثورة اخلاقية.فلو كانت سياسية فان هدف القائم بالثورة يكون الوصول الى السلطة فيما الحسين كان يعرف انه مقتولا.ولو كانت اسلامية لما تعاطف معها مسيحيون وقادة غير اسلاميين بينهم غاندي،فضلا عن ان الحاكم (الخليفة)كان يحتاج الى الدين لبقائه في السلطة.
واستشهاد الحسين كان تراجيديا من نوع فريد..ليس فقط في الموقف البطولي لرجل في السابعة والخمسين يقف بشموخ وكبرياء امام آلاف الرجال المدججين بالسيوف والرماح المنتظرين لحظة الايذان بالهجوم عليه وقتله،ورفضه عرض مفاوض السلطة بأن يخضع لأمرها وله ما يريد،وردّه الشجاع بصيحته المدويه:(هيهات منّا الذلّه)..بل ولأن المشهد كان فيه نساء واطفال،وكأن الحسين اراد ان يثبت للبشرية ان بشاعة طغيان السلطة في أي نظام بالدنيا،تتجاوز وحشية الحيوانات المفترسة.
كان بامكان الحسين ان ينجو وأهله واصحابه بمجرد ان ينطق كلمة واحدة:(البيعة)..لكنه كان صاحب مبدأ:(خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدّي) والاصلاح مسألة اخلاقية،ولأنه وجد أن الحق ضاع:(ألا ترون أن الحق لا يعمل به)،ولأن الفساد قد تفشى وشاعت الرذيلة..وكلها مسائل اخلاقية.وكان عليه ان يختار بين:ان يوقظ الضمائر ويحيّ الاخلاق،أو ان يميتها ويبقى حيا..فاختار الموت..وتقصّد أن يكون بتلك التراجيديا الفجائعية ليكون المشهد قضية انسانية أزليه بين خصمين:سلطان جائر..وجموع مغلوب على امرها.
ما زلنا نغلّب الانفعال على القيم
تتذكرون جيدا كيف كانت الجموع الكبيرة تتوجه مشيا على الأقدام من محافظات العراق الجنوبية متوجهة الى كربلاء في عاشوراء. وتتذكرون ايضا ان احزاب السلطة كانت تقيم الولائم على طول الطرق المؤدية الى كربلاء..وما يعنينا هنا ان طقوس العزاء كانت تستهدف الاستغراق في الجانب الانفعالي على حساب تفعيل القيم الأخلاقية التي تشكل جوهر ثورته.ولهذا سببان سنتحدث عنهما بالصريح وان كان يغيض كثيرين بينهم من هو في السلطة ولديه وسائله في افناء الآخر.
السبب الأول،التوحّد مع تراجيديا الحدث في مشهده الانفعالي.
ولكي نفهم الأمور بعقلانية،نوضح هنا نظرية خاصة بالدماغ خلاصتها:ان كل واحد منّا يمتلك عقلين:انفعالي يتعلق بالحزن،الغضب،الحب،الخوف..وفكري يتعلق بالادراك والفهم والتعامل مع الأمور بعقلانية..وأنه اذا نشط احدهما فأن الآخر يضعف او يتعطل.
والذي كان يجري طوال عشرين سنة ان العقل الانفعالي لجماهير واسعة كان يسيطر عليهم فيستغرقون في اللطم والبكاء والمبالغة في تجسيد مظاهر الحزن،ويتعطل لديهم العقل المنطقي الخاص بالقيم والمباديء التي ثار من اجلها الامام الحسين.
وثمة حقيقة سيكولوجية،ان المشهد الجماهيري الذي يوحّده تعاطف عميق مع فاجعة انسانية، يحصل فيه نوع من التنافس او التصعيد في تجسيد الانفعالات يكون فيها المعيار الدال على حب الحسين هو:كثرة الدم المسفوح على الكتفين من ضرب الزنجيل،او شدة احمرار الصدور من اللطم عليها،او غزارة الدموع في بكاء مستمر،او طول مسافة المشي على الاقدام نحو كربلاء.
ان هذه المعايير لا تعبر بالضرورة عن شدة الحب للحسين،فهنالك فئات من الشيعة،ومحبيه من غير الشيعة،يعبّرون عن حزنهم للحسين بأساليب راقية تدلل على ان حبهم له اكثر وعيا بقيمه وتضحيته من اجل الحق والعدالة الاجتماعية.
والسبب الثاني..
ان الاسلام السياسي كان على مدى السنوات السابقة يوظّف الاحتفاء بذكرى استشهاد الحسين لغايات سياسية.ولأنهم جماعات وكتل واحزاب فان التنافس يجري بينهم من خلال ما يصرفونه على الجماهير من طعام وشراب ومنام..الهدف منها زيادة عدد ناخبيهم..بعكس ميسورين يصرفون الكثير في حب خالص للحسين منزه من غايات دنيوية.
إساءات السلطة للأمام الحسين
القيم الكبرى في ثورة الحسين هي الوقوف بوجه ظلم السلطة وطغيانها وتحقيق العدالة الاجتماعية وضمان حرية وكرامة الانسان التي اكد عليها الاسلام.فتعالوا نطبّق هذه القيم على السلطة في العراق بعد التغيير.
واقع الحال ان العراق ..الى الآن 2023 ..فيه عالمان:عالم السلطة المحدد بمنطقة صغيرة في بغداد (10كم مربع)،وعالم كبير هو العراق.والذي حصل ان هذه المنطقة سرقت احلام العراقيين وجلبت لهم الفواجع اليومية،وأوصلتهم الى اقسى حالات الجزع والأسى:الترحم على الأيام التي كانت فيها هذه المنطقة حمراء!.وحصل ان السلطة في العراق عزلت نفسها مكانيا بأن احاطت وجودها بالكونكريت والحراسة المشددة،وعزلت نفسها نفسيا عن الناس.. ولو انها كانت قد اتبعت منهج الحسين لكانت قريبة من الناس لأن الحسين ساكن في قلوبهم.
وللأسف،ان اساءة السلطة للأمام الحسين وصلت الى الخارج.فبدل ان نقدم الحسين رمزا انسانيا لعالم افسدت أخلاقه السياسة فان تطبيقات السلطة واحزاب الاسلام السياسي ارتكبت اساءة بالغة بحقه أمام الأجانب.ففي مقالة لكاتب بريطاني اسمه(دافيد كوكبورن) نشرها في صحيفة الاندبندنت بعنوان: “ كيف تحولت بغداد الى مدينة للفساد”..قال بالنص:
(أحسست بألم وانا ارى شعارا مكتوبا على لافتات سوداء بساحة الفردوس: “الحسين منهجنا لبناء المواطن والوطن)!
هذا يعني ان هذا الكاتب الاجنبي ادرك من ذاك الوقت التناقض الحاد بين قيم الامام الحسين وبين من تولى السلطة في العراق ويدعون انهم حسينيون.وللتاريخ فان ميزانية العراق كانت في حينها( 2013 ) تقارب ترليون دولارا..اي ما يصل حاصل جمع ميزانيات العراق في ثمانين عاما!.وحينذاك ايضا حدث ان زخة مطر أغرقت بغداد وجعلوها العاصمة الأسوأ في العالم.
فأية اساءة أشدّ وجعا من اساءة يدعي اصحاب السلطة انهم (حسينيون) فيما اعمالهم تناقض مباديء الحسين وقيمه!..وأقبحها انهم افقروا 13 مليون عراقي باعتراف وزارة التخطيط في 2018، بعد ان كانوا معدمين وصاروا يعيشون حياة باذخة ويشترون الفلل والشقق الفارهة في بيروت وعمان وشرم الشيخ ولندن وباريس.
الفاسدون هم ..الأقوى
يؤكد ذلك دليلان،الأول ..اعلان السيد حيدر العبادي يوم تولى رئاسة الوزراء (2014) بأنه سيضرب الفساد بيد من حديد،واصراره على ذلك (حتى لو يقتلوني) ،واعلانه بعد اشهر بأن الفاسدين يمتلكون القوة والمال والفضائيات ..وانهم مافيا ، مبررا انه لا ولن يستطيع.
والثاني، اعلان السيد مقتدى الصدر في (2020) انسحابه من العملية السياسية وامره باستقالة نواب التيار الصدري الذين يمثلون الكتلة الأكبر في البرلمان بعد عجزه عن تأليف حكومة أغلبية ،واعطاء مقاعده الثلاثة والسبعين لخصمه الذي يتهمه بالفساد..ما يعني ان الفاسدين الذي (يذرفون الدموع عل الحسين) بتعبير الصدر.هم الذين يتحكمون بأمور البلاد والعباد.
وبرغم ان قراءة واقع الحال تجعلك عل يقين بأن الحسين لو خرج الآن في بغداد طالبا الأصلاح في أمّة جده ،فان اول من يتصدى اليه هم ساكنو المنطقة الخضراء،وبينهم من هو اقبح من الشمر بن ذي الجوشن!..فانه سيبقى يخشاه كل حاكم مستبد بالسلطة والثروة، وان أطمأن قلبه!