طالب عبد العزيز
نأخذ أبناءنا الى حفلة الآلام، لكي نطلعهم على مجسَّم صغير للمشهد، وحين يسألوننا عن المشهد الكبير نحار كيف نصفه ونجيب، لأنَّ الحقيقة غائبة، أحدُهم جعلها في كتاب، مازال يكتبه، هو الى اليوم عند خاتمته، وكلما سألناه ورقة ألقى في وجوهنا طائراً أحمرَ .
ظلَّ مزورو التاريخ يصعدون بالحكاية الى المنابر، ومن شواهق الحجر والخشب ما انفك يساقط علينا دمٌ كثير، وحين الحف أبناؤنا بالسؤال آثرنا أن نكتب لهم شيئاً، ولأننا في سورة الاجابة فقد أعددنا الورق والحبر والاقلام، وحين شرعنا نكتب خُذلنا بالايام، فلا الورق أبيض، ولا الحبر أزرق، وما الاقلام إلا عساليج.
صارت الازقة تأخذنا الى ما لا ينتهي من الصور والبيارق على طريق عودتنا من الحفلة تلك.كلُّ صورةٍ فصل صغير لحياتنا، وكلُّ بيرق حكاية لم يروها أحدٌ، وكلُّ هبوبٍ عابث في الريح يحرك هذه وتلك، فتنشب حرب، وتجري خيول، ويُطاعنُ رجال، ويصعد غبار .. لهذا صرنا نغمض عيون أبنائنا، عند كلِّ ورقة في الكتاب، الذي لم نكتبه، ولن نكتبه، لئلا نطلعهم على تفاصيل الحفلة المشؤومة تلك.
تركنا البساتين تجفُّ، لأننا نعتقدُ بأنها ستجفُّ لا محالة، فلم يعْننا أمرُ أشجارها، وهي تذبل وتصفرُّ وتهلك، وبين ايدينا، والى المسالخ، حملنا ماشيتنا، لا لنبيعها، بل لكي نتشفّى بمشهد الدم، وهو يركض ويملأ أرض المسلخ. في أرواحنا سجّادة حمراء، بلا نهايات، وفي سوق الثياب وقفنا نشتري الخِرقَ، ما تمزّق وبلي منها، لا لأنَّ السوق أمحلتْ من الجديد، لكننا نجد مباهجنا في ثياب الآباء، مولعون نحن بالخَلِق منها، سعادتنا في أن تبلى على أجسادنا، وأمام جَمل على الجادّة وقفنا، تأملنا مليّاً في منخريه، وهي تستاف رائحة الرمث الاسود والعاقول التي في رؤوسنا، قلنا له: يا جدّاه، لم تركتنا في البرية الرمثاء هذه، فحمحم طويلاً. لم أنتزع الحكاية من فم أحدهم، أبداً ، أنا أتصفح كتاباً، لم أقرأه، ولم يمله أحدٌ عليّ، لكنني رأيت على حاشيته رسوماتٍ من رمل وعظايا.
في كل دورة للقمر نكسر جرّةً، فرحين بانقضاء موسم من مواسم أحزاننا، لكنَّ أقمارنا كثيرة، لهذا رحنا نولد في أحزاننا، وننسخ السيوف والرايات والاجساد وبما يتناسب مع أقمارنا، وهكذا صارت تتبعنا الرعود والعواصف والطبول والنساء بثيابهن السود، وتنجذب الى بيوتنا الاهلة الناقصة وأعواد البخور، وتقيم في أبهاء بيوتنا النادبات، من عشتار المفجوعة بحبيبها وزوجها الى وحيدة خليل . يفتح طفلنا عينيه على حائط، يطير منه غبارٌ، ظلَّ يتشكل على هيئة دموع وسيوف، ويُغمض أجدادُنا جفونهم على كفٍّ تومئ مودعةً، هذا الوداع لم ينته يوماً، ظلَّ وداعاً ابدياً. يسألني ابني: لماذا كان أجدادُنا بحاجة الى من يقف أمامهم باكياً ومودّعاً، فأنا لم أرهم يستقبلون أحداً؟ كلُّ الذين رأيتهم كانوا بحقائب ثقيلة، حتى أنني لم أتبين وجوههم. أجدادنا كانوا بلا وجوه يا بنيّ: قلتُ، ولماذا ظهورهم مقوسةً؟ وآخذين مغيب الشمس باتجاه واحد يقول: لأنَّ حقائبهم ثقيلة يا بني.الطريق الموحشة الطويلة تلك لا تنفك تزورني في دورة الاقمار هذه.