TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > رحلة الصورة الذهنية للإله من المندائية إلى البهائية

رحلة الصورة الذهنية للإله من المندائية إلى البهائية

نشر في: 31 يوليو, 2023: 10:37 م

سعدون محسن ضمد

تفضَّلت الروائية والكاتبة والمترجمة العراقيَّة لُطْفية الدليمي بكتابة قراءة نقدية، عن كتابي "دائرة الوعي المغلقة" نُشرت على صفحتها الشخصية بعد نشرها في صحيفة المدى بتاريخ (11-7-2023) وكانت تحت عنوان "سعد محسن ضمد في كتابه الجديد.. دائرة الوعي المغلقة وغواية السرديات الكبرى".

بالجملة ارتكز نقدها لأفكار الكتاب على أربعة قضايا عامَّة ورد تحت كل منهما تفاصيل كثيرة.

القضية الأولى: أن آرائي في الكتاب واقعة بسياق تأسيس، أو نقض، سردية كبرى.

وتحت هذ العنوان وردت الكثير من النقاشات، منها: أن العصر تجاوز مرحلة التأسيس للسرديات الكبرى، لأن ما بعد الحداثة قزّمتها ونصحت بالاهتمام بالقضايا الصغيرة. وحتى لو كان الكتاب ينقض ولا يؤسس، فالمشكلة تبقى ذاتها. فضلاً عن أن التأسيس، وحتى النقض، يحتاج إلى جهد بحثي كبير وسنوات عمل طويلة، ومراجعات للمصادر واطلاع على آخر آراء المختصين.

وانطلاقاً مما طرحه "جان فرانسوا لوتار" صاحب مصطلح السرديات الكبرى، أقول: اين وقعت مناقشتي لفكرة "انغلاق الوعي" في سياق التأسيس لسردية كبرى؟ مذكّراً بان لوتار يطرح السردية الكبرى، باعتبارها نظاماً في الشرعية يستغرق الكل الاجتماعي والسياسي والثقافي والعلمي ثم المعرفي، يفسر التاريخ ويحدد المستقبل ويسعى إلى تحقيقه. بينما لم اناقش أنا فكرة الشرعية، ولا ناقشت أي أفكار شمولية.

وإذا كان المقصود بان وضعي للوعي داخل "دائرة الانغلاق" يؤدي بالضرورة إلى تأسيس أو نقض سردية، فالكتاب، إذا، غير معني بما يترتب عليه. خاصّة وأن المحور الذي يدور عليه موضوع الكتاب تفصيلي، وهو طُرُق تَشَكُّل الصور الذهنية، وكيف يؤدي بعضها إلى تُقييد عمل الوعي. ومن هنا فان المقارنة بتجربة "كارل بوبر" و"توماس كون" مقارنة غير صحيحة، وكل ما جاء في المقال كنتيجة لهذه المقارنة اجنبي عن موضوع الكتاب وأهدافه.

أما القضية الثانية: فتقول بان الاتّجاه الانثروبولوجي الذي اقترحته لمناقشة الوعي لم ينجح وأن نقاشاتي كانت ابستمولوجية. وما طرحي للديانتين المندائية والبهائية إلا لزيادة الجرعة الانثروبولوجية في الكتاب.

وهنا تبرز مشكلة كنت اعرف بأنني سأواجهها بمجرد دعوتي إلى دراسة الوعي انثروبولوجيا؛ لأن الوعي يُعامل غالباً معاملة العقل، ولهذا السبب افردت في الكتاب مبحثا خاصَّاً لتوضيح أبْعاد مفهوم الوعي ثمَّ تعريفه، ثمَّ الفصل بينه وبين مفهوم العقل، باعتبار أن مساحة الوعي اوسع بكثير من مساحة العقل. وكان سبب حرصي على هذا الفصل هو تجنّب الاحتكاك بالفلسفة، لكن يبدو أن الاحتكاك أمر لا مفرَّ منه؛ فالفلسفة، التي انفردت ببحث العقل في وقت مبكر جداً وسابق على تأسيس العلوم الاجتماعية، قدّمته باعتباره النشاط الأهم من أنشطة الوعي متجاهلة بقيّة النشاطات. وهكذا تم عزل مخرجات الوعي الأخرى، التي تَبَيَّن مؤخّراً بأنها تؤثر كثيراً بمخرجات العقل. ولأن العقل يشتمل على بديهيّات ومسلّمات ومقولات وقواعد معالجة، إذاً فهو مجموعة أفكار لا يمكن تبرير وجودها إلا بمبرر تحقيقها المعرفة المجرّدة عن كل غاية. وعلى هذا الأساس صار العقل ومخرجاته المعرفية شؤوناً تأملية/ فلسفية سامية ومتعالية.

وفقا لما تقدّم صار لدينا حاجز "متعال" يفصل بين العقل والفلسفة من جهة وبين العلوم الإنسانية من جهة أخرى. لكن الفلسفة نفسها شكّكت بمرحلة لاحقة بهذا السمو، عندما تناولت البديهيات والمسلمات والمقولات، ثم ناقشت قدرة المنظومة التي تعمل وفقها على تحقيق المعرفة، بما وراء الطبيعة اول الأمر، ثم بالطبيعة أخيراً، وذلك عندما صار وجود وعدم وجود الواقع الخارجي محل شك. على هذه الأساس اشتبكت الفلسفة مع نفسها، في معالجات رفض بعضها وجود المعرفة المجرّدة ثمَّ سموّها في حال وجودها. وعند ذاك انفتح الباب أمام العلوم الاجتماعية للمشاركة بتحمل مسؤولية النقاش، وصار لدينا علم اجتماع المعرفة، وانثروبولوجيا المعرفة وعلم النفس المعرفي. وبدأت المعرفة تُعالَج في فضاء أوسع من فضاء العقل، أي في فضاء الوعي، بما يشتمل عليه من عواطف ومشاعر واحاسيس وحاجات. ثم في فضاء الثقافة بما تشتمل عليه من اعراف وعادات وتقاليد وأديان وعلاقات ومؤسسات ضاغطة أو حاكمة أو مؤسسات تنشئة.

ثم ومن جهة أخرى مهمَّة، جادَلَت الانثروبولوجيا في وجود أي معرفة تقع خارج سياق تعزيز فرص البقاء، الذي هو سياق حيواني.

على أساس ما تقدّم، أقول بان مرجعية النقاش في مبحث العقل والمعرفة يجب أن تتحوّل إلى الانثروبولوجيا وبقية العلوم الاجتماعية، ولا تبقى محتكرة من قبل الابستمولوجيا؛ لأنها غير قادرة لوحدها على النهوض بأعباء هذه المرجعية.

اما بخصوص الديانتين المندائية والبهائية فلم أوردهما لتعزيز الطابع الانثروبولوجي، بل لتقديم دليل انثروبولوجي على أن الوعي وعبر رحلة استغرقت ما يقترب من الفي سنة، لم يتقدم خطوة واحدة على صعيد رسم صورة ذهنية عن الله! وهو دليل يدعم بقوّة فرضيّة انغلاق الوعي.

في القضية الثالثة، انتقدت السيدة الدليمي، ما اعْتَبَرته، استعمالي اللغة الادبيّة في ميدان البحث العلمي، ثمَّ اقتبست كلاماً وصفيّاً عن الوعي وقَدَّمته على انه تعريف به. مع أنه وارد في المقدمة، وفي العادة لا تنشغل المقدمات بتعريف المفاهيم. ومن الطبيعي أن تُكتب بلغة تشويقيّة لأغراض التسويق، ولا يُعدُّ هذا عيبا في أي كتاب بحثي، إذا كان متنه مكتوب بلغة مناسبة. وفضلا عن كل ذلك فإن تعريف الوعي لم يرد في المقدّمة، بل في مبحث مستقل كُتب بلغة بحثية.

أما القضية الرابعة، فمفاد الاعتراض فيها مبني على كوني أجريت ربطاً بين المعرفتين العلمية والدينية، مع أن "الدين مؤسس على الاعتقاد والعلم مؤسس على التجربة". لكنني لم اربط بين العلم وبين الدين، أبداً. بل بين التفسير المصاحب للعلم، وبين التفسير الديني، ونبّهت لضرورة الفصل بين موضوع التجربة، وبين التفسير المصاحب له. فبعض التفسيرات تتأسس على مفاهيم زائفة. إذا فمنطقة الاشتراك التي طرحتها كانت بين المعارف الزائفة سواء كانت "دينية" أم "علمية". أي أنني وضعت زيف المفاهيم كمعيار لتمييز المعرفة الزائفة، فأين ما ورد هذا المعيار طُبّقت نتائجة. ولا يجوز أن يقال حينها أن المعرفة علمية، فكيف تكون علمية وهي زائفة؟ ويمكن إيراد مفهومي الروح والجاذبية كمثال على ما اقصده. فمن الممكن القول بان الروح مفهوم تجريبي، إذا ربطنا بين مراقبتنا المتكررة للأجنَّة لحظة انبثاق الحياة فيها وبين مفهوم الروح باعتباره تفسيراً للانبثاق. وهذا ما حصل مع الجاذبية، فقد ربطنا بين دوران الاجرام حول بعضها، وبين مفهوم الجاذبية باعتباره تفسيراً للدوران. فاذا كانت الجاذبية مفهوم تجريبي فيجب أن يكون مفهوم الروح تجريبي هو الآخر، فالتشابه واضح. والحقيقة أن التجربة متعلّقة بحركة الجنين ودوران الكواكب فقط، ولا علاقة لها لا بالروح ولا بالجاذبية. وهذا تفريق دقيق أكدّت عليه في الكتاب ودعوت إلى ضرورة التوقف عنده.

وأخيراً لا يسعني إلا ان اشكر السيدة الدليمي على الجهد الكبير الذي بذلته في تناول الكتاب، وفي تفكيك أهم مفاصله، والإشارة إلى نقاط الضعف ثم الإشادة بنقاط القوّة، وهذا ما ساهم بإثارة نقاش نقدي مهم وواسع حول الكتاب. ففي النهاية لا جدوى من كتابةٍ لا تستدعي اعتراضاً أو تستفز نقاشاً!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: حدثنا نور زهير!!

وراء القصد.. ولا تيفو.. عن حمودي الحارثي

فشل المشروع الطائفي في العراق

شعراء الأُسر الدينية.. انتصروا للمرأة

العمودالثامن: فاصل ونواصل

العمودالثامن: حين يقول لنا نور زهير "خلوها بيناتنه"!!

 علي حسين إذا افترضا أن لا شيء في السياسة يحدث بالمصادفة، فإنه يفترض أن نوجه تحية كبيرة للذين يقفون وراء كوميديا نور زهير الساخرة ، فبعد أن خرج علينا صاحب سرقة القرن بكامل...
علي حسين

باليت المدى: الرجل الذي جعلني سعيداً

 ستار كاووش كل إبداع يحتاج الى شيء من الجنون، وحين يمتزج هذا الجنون ببعض الخيال فستكون النتيجة مذهلة. كما فعل الفنان جاي برونيه الذي أثبتَ ان الفن الجميل ينبع من روح الانسان، والابداع...
ستار كاووش

كلاكيت: ألان ديلون منحه الطليان شهرته وأهملته هوليوود

 علاء المفرجي في منتصف السبعينيات شاهدت فيلمه (رجلان في مأزق) وهو الاسم التجاري له، في سينما النجوم في بغداد، وكان من إخراج خوسيه جيوفاني، ولا يمكن لي أن انسى المشهد الذي يوقظه فيه فجرا...
علاء المفرجي

شراكة الاقتصاد الكلي والوحدة الوطنية

ثامر الهيمص وقد اراد الله ذلك فاستهل النبي ابراهيم عبادته وهو(الدعاء) الذي يعد (مخ العبادة) فدعا الله بقوله: (رب اجعل هذا البلد امنا) فكانت الاولوية للاوطان وليس للاديان دون تعارض. (رحيم ابو رغيف /...
ثامر الهيمص
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram