TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > بدايات المدى: الماضي واللغة والصاروخ!

بدايات المدى: الماضي واللغة والصاروخ!

نشر في: 6 أغسطس, 2023: 10:59 م

زهير الجزائري

-هل انت ذاهب؟

..بهذا الاختصار سألني الصديق (جلال الماشطة) وهو ما يزال في موسكو.

-على الأكثر…

-هل في ذهنك مشروع محدد؟

-نعم، أن أرى من تبقى من أهلي وقبر والديّ.

الجمل مختصره. كأننا نتحدث عن البداهة. رجفة الكلمات تكشف عن قلق عميق بعد عقود في المنفى. فكرت في التجربة كثيراً: العودة! هل هي عودة؟ بيني وبين البلد حروب لم أكن فيها، وبيننا ثلاثة عشر عاماً من حصار لم أعانيه، وأعرف بالمتابعة البعيدة أن أموراً كثيرة تغيرت.. جيش من موتى أعرفهم. أماكن حميمة ازيلت من الوجود، منها محلتنا وبيتنا. مع ذلك لا بد أن أكون هناك، انا وهذا الوعي المستعد مثل دفتر ينتظر الكلمات.

- المشروع سيتحدد هناك.

بدأ الحديث عن المشروع في اليوم الرابع بعد وصولي. ذهبت الى (لقاء). هناك يجتمع أصدقائي في الحديقة و بينهم الأسئلة الصعبة: ماذا يحدث، أين نحن، ماذا نعمل؟ سأشاركهم الأسئلة والحيرة.

في الجانب الثاني من النهر، وعلى مسافة حرائق ونهب وقتل يجتمع السياسيون ليقول لهم المحتلون الأمريكان ما عليهم أن يفعلوه.

التقينا لمرتين او ثلاث واكتشفنا أنه ليس لدينا مشروع غير الحيرة التي نحن فيها. كل شئ محاط بالمصاعب، بما في ذلك ندوة عن الآثار والوثائق التي تحرق. من سيسمح لنا، في أية قاعة، من سيحمينا، ومن سيساندنا؟ نبحث ونكتشف بمزيد من الوضوح أننا بلا قوة في بلد تتعارك فيه الضباع باسنانها الحادة.

المدى

في اليوم الثالث او الرابع ظهر (فخري كريم) ببدلة سفاري مع اثنين من مرافقيه. استمع الينا، وبالأحرى الى حيرتنا وكان المشروع جاهزاً في ذهنه:جريدة!

يملك فخرى دائماً روح المبادرة. لا شئ يستعصي عليه. لديه المال والعزيمة. كنت معه في قطيعة للمرة الثانية، وربما الثالثة. وضع يده على كتفي بمعزل عن الجماعة وقال لي نحن كبرنا على الخصومات. علينا أن نفعل شيئا لهذ البلد المدَمر، لدينا مؤسسة(يقصد المدى) في المستقبل سيديرها شبان مثل (نصير و نهار). كان ابني نصير وابنة فاطمة نهار مرتبطان في تلك الفترة بعلاقة حب. أقنعني بان البلد ينهض من الصفر للمرة…كم؟ وانها بداية جديدة. نقطة ضعفي هي البدايات الجديدة. معاً جرّبنا عدة بدايات جديدة.. أسسنا رابطة للكتاب والفنانين في المنفى، طبعنا في سرداب في ثكنة الفاكهاني أول عدد من جريدة (طريق الشعب) في المنفى، نظمّنا أول احتفال بعيد الحزب في الفاكهاني… لنجرب اذن مرة أخرى ومعي نخبة من خيرة الصحفيين. لم يكن مشروع الجريدة ابتداعاً متفرداً. البلد يشهد انقلاباً صحفياً بكل معنى الكلمة. كمياً قفز العدد من خمس صحف يومية ((الثورة الجمهورية العراق القادسية بابل)) الى اكثر من 150 صحيفة يومية و اسبوعية و شهرية. توجيهيا كانت كل الصحف تاخذ توجيهاتها من مركز واحد، هو مكتب الثقافة والاعلام التابع لحزب البعث العربى الاشتراكي. تعددت مراكز التوجيه الى اكثر من 260 حزباً ومنظمة اعتمدت الصحافة وسيلة لتسويق نفسها لجمهور لا يعرفها في فترة قريبة من أول انتخابات حقيقية.

الماضي

اول ما واجهناه، ونحن نلتقي في محل صرافة متروك، هو الماضي. الماضي لم يمض. فالقائد ما يزال حاضراً رغم الدمار الذي لحق بتماثيله و جدارياته. "سيعود"يهمس فدائيوه بصوت حاد كالفحيح، فهو سيد لعبة الاختفاء والظهور. مرة يحولون اوهامهم الى واقع قريب من التحقق ومرة ينشرون اشاعات عن ظهوره متخف بين المصلين في (جامع النداء).. بهذا الرعب الرمزي وما يشيعونه من دمار وحرائق يريدون ادامة الخوف من حكمه. الأسطورة تسري بسرعة الريح السوداء لأن الحاضر شديد العنف والفوضى والمستقبل غير واضح.

لغة الماضي ما تزال حاضرة. الصحفي تحت وطأة النظام السابق بطريقتين بدون تردد.

لدينا حين بدأنا المشروع ثلاثة عينات من الصحفيين:

-الذين عملوا طوال عقود في صحافة النظام السابق. منهم عدد كبير اعتبروها المهنة الوحيدة المتاحة وعاشوا عذابات التناقض بين وجدانهم و مصدر عملهم. سهيل تحاشى الموقف السياسي واختفى في قفا السجادة في عمل ممل هو إعادة الصياغة التي تأكل من لغته أكثر مما تغني لغة الآخر. لن أتحدث عنه، فقد روى تجربته في كتابه (سوء الحظ).

-الذين انقطعوا عن الصحافة مرغمين طوال عقدين واكثر وانصرفوا لأعمال أخرى. منهم (سلوى زكو). اللغة مثل الجنس تتجدد وتغتني بالاستعمال، وتجف حين تترك.. هذا الخوف راودها بعد حوالي خمسة وعشرون عاماً من الانقطاع. قالت بعد أن سحبت نفساً عميقاً من سيجارتها:

- انا خائفة! (قالتها لي و لسهيل) خائفة من انني لم أعد قادرة على الكتابة.

- الذين عادوا الى البلد بعد عقود في المنفى، وانا منهم، اتصرف بحذر مع صحفيين لا أعرفهم ولا قدراتهم. اطرح الفكرة فألاقي الدهشة لأسحبها. لم اتعود القيادة بعد وأفضّل التنفيذ فاجمع شباناً نشأوا تحت وطأة الحزب الواحد والقائد الواحد وأسألهم كيف يرون الوضع الجديد؟

التعارض حصل بيننا نحن الثلاثة. سلوى رفضت العمل مع النوع الاول وتقصد المندمجين بالعقيدة، قالت انها انقطعت طوال أكثر من عشرين عاماً عن أحب عمل لديها، وهو الصحافة، حتى لا ترغم على العمل مع هؤلاء مشيرة الى اشخاص لا تراهم في الغرفة التي لانراها ونحن نتناقش في الممر الضيق. سهيل، وهو يمتص سيكارته بقلق استدار نصف دورة ليتحاشى النظر مباشرة الى وجه سلوى. قال أنا اعرفهم جيداً، انهم ضحايا فترة سيئة. بقيت ساكتاً أنا العائد من الخارج، لدي إحساس مؤلم بأنني غير مؤهل للحكم. لا أعرف موقفي لو كنت تحت نفس الضغوط.

في النهاية اتفقنا على أن نوفر فضاء صحياً للعمل.

أغلب من حولنا تعرف عليهم سهيل قرب نهاية القرن العشرين، عرفوا النظام و صحافته في فترة ضعفه النموذجية بعد حربين وحصار، حين لم يعد بمقدوره كسب المثقفين بالرشوات ولا بالتخويف لان عليه قبل ذلك أن يرشو جهاز الخوف في سنوات الحصار الأخيرة. بين هؤولاء، ولا أدري كيف جاء صحفيون محسوبون عقائدياً على النظام السابق.

الاجتثاث

لم يقتصر الحوار داخلنا نحن الثلاثة. في المكان الساخن الذي نعمل فيه وراء بوابة حديدية استدعاني لحديث خاص صديق أعرفه من ايام جريدة (طريق الشعب)، أعدم شقيقه وهو صحفي بسبب وشاية منهم. "هذا الذي هناك"، مشيراً الى الغرفة. عاد مرة ثانية ومعه اثنين أعرفهم مهدداً: نخرجهم بالتواثي! لم أنظر في وجه الشخص المعني حين عدت للغرفة ولم يرفع هو رأسه رغم يقيني بأنه سمع الحوار الحاد. في فترة لاحقة زارني كادر نشط من لجنة اجتثاث البعث، امتدح ثقافتي وتاريخي النضالي وهمس في أذني بان لدينا ضمن نصاب (المدى) أعضاء مشمولون بالاجتثاث احدهم كان عضو شعبة في الحزب المجتث، والثاني كاتب تقارير أدت إلى الموت " لدي نسخ من تقاريره إذا أردت الإطلاع". وقفت حائراً حين خرج أبحث حولي عن سيجاره. ماذا نفعل؟ العفو يتطلب النسيان والجروح ما زالت تنزف. أتذكر؟ الذاكرة ما تزال موضوعي الضاغط؟ أين القضاء الذي يعيد للضحايا ما فقدوه؟ حتى لو تذكرنا وعاقبنا لن نستطيع اعادة القتلى إلى الحياة.

الماضي يحيط بنا ويعرف كيف يجدد نفسه مغلّباً الطاعة على الحوار، فالفريسية المجربة تتهجس مركز القوة والقرار، تعرف إغراء السلطة التي تستبعد التكافؤ وتفضل التذلل والطاعة. رجل الاجتثاث الذي زارني حذرني قبل أن يغادر "لا تامنهم ولا تصدق نعومتهم،لانهم مجبولون على الانقلابات"!.

مرة اقترحت على عجل ان نفتح ملف الاعتذار او الاعتراف"أن ننشر شهادات بعثيين سابقين، أو كتاب صاروا بعثيين كيف وجدوا انفسهم ينقادون عكس قناعاتهم ضد ضمائرهم. نستبعد التشفي ونفتح بوابة للاعتذار و التسامح. كان الرد مختصراً من سلوى وسهيل معاً: لن يعتذروا! لأن ثقافة الاعتذار غير موجودة في هرم من الكرامات.. كرامة الفرد، كرامة العائلة والقبيلة التي تحتويها، كرامة الحزب الذي كنت فيه ولا زال تاريخي فيه. الاعتذار سيخل بهيبتها. المانع الآخر هو أعتذر لمن؟ الاعتذار يرتبط في تاريخنا السياسي ب(البراءة) التي قال عنها الشاعر (مظفر النواب) في واحدة من اقسى قصائده (يا ابني ابني الجلب يرضع من حليبي ولا ابن يشمر لي كسره من البراءة). الاعتراف يحتاج لفضاء صحي يستقبله كعلامة تغّير في حين كانت تصفية (أزلام النظام السابق) تجري بكاتم الصوت وأحياناً علانية بدون كاتم كرسالة للآخرين. الاعتراف يحتاج للشجاع الذي يبدأ.أول ما وصلتنا سلسلة مقالات عصبية طويلة كتبها الشاعر والبعثي المتقدم (علي الحلي)، لكنها احتسبت أوراق تصفية حساب مع الحزب الذي كان فيه اكثر من كونها شهادات شخصية.

الصاروخ

على عكس التصور الذي تبدى في الأشهر الأولى من الفورة الصحفية التي تلت سقوط الحزب الواحد والصوت الواحد، فإن الفوضى ليست المجال النموذجي لنمو إعلام حر. فكما توزع عنف الدولة السابقة على الجماعات المسلحة، توزعت رقابة الدولة الى رقابات القاع الاجتماعي، ومنها رقابة المؤسسات الدينية، ورقابة المجتمع. لا تفرض هذه الرقابات الدينية والاجتماعية ممنوعاتها بالعلن و لا بالأشكال القانونية، أنما بوسائل أكثر غموضاً وعنفاً.. كل هذه الرقابات، أسندتها على الأرض تهديدات الجهات المجهولة التي تنفذ الرقابة بالقتل. كنّا نخرج من بناية الجريدة الى فضاء غريب مشحون بالكمائن. نتظاهر ونحن نمرق إلى الشارع بأننا لسنا نحن، القتلة في الزوايا والناس يسيرون بينهم غير آبهين. ما من أحد منّا إلا وتلقى تهديداً وأحيانا تلقاه مع التنفيذ، لكن كل التهديدات اختصرت مرة بصاروخ، عبر وهو يزمجر ثلاثة شوارع و ساحتين. صدم شجرة فانحرف قليلاً، اخترق حائطاً عمره خمسين عاماً، دار دورتين وهو يفلّش الجدران في طريقه ليستقر في النهاية وسط غرفة الاجتماعات. بعد صدمة الصاروخ و انجلاء الغبار بدأنا، وقد صرنا رقباء أنفسنا، نبحث فيما كتبناه عن الذنب الذي استحق صاروخاً بهذا الحجم.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: حدثنا نور زهير!!

وراء القصد.. ولا تيفو.. عن حمودي الحارثي

شعراء الأُسر الدينية.. انتصروا للمرأة

فشل المشروع الطائفي في العراق

العمودالثامن: فاصل ونواصل

العمودالثامن: حين يقول لنا نور زهير "خلوها بيناتنه"!!

 علي حسين إذا افترضا أن لا شيء في السياسة يحدث بالمصادفة، فإنه يفترض أن نوجه تحية كبيرة للذين يقفون وراء كوميديا نور زهير الساخرة ، فبعد أن خرج علينا صاحب سرقة القرن بكامل...
علي حسين

باليت المدى: الرجل الذي جعلني سعيداً

 ستار كاووش كل إبداع يحتاج الى شيء من الجنون، وحين يمتزج هذا الجنون ببعض الخيال فستكون النتيجة مذهلة. كما فعل الفنان جاي برونيه الذي أثبتَ ان الفن الجميل ينبع من روح الانسان، والابداع...
ستار كاووش

كلاكيت: ألان ديلون منحه الطليان شهرته وأهملته هوليوود

 علاء المفرجي في منتصف السبعينيات شاهدت فيلمه (رجلان في مأزق) وهو الاسم التجاري له، في سينما النجوم في بغداد، وكان من إخراج خوسيه جيوفاني، ولا يمكن لي أن انسى المشهد الذي يوقظه فيه فجرا...
علاء المفرجي

شراكة الاقتصاد الكلي والوحدة الوطنية

ثامر الهيمص وقد اراد الله ذلك فاستهل النبي ابراهيم عبادته وهو(الدعاء) الذي يعد (مخ العبادة) فدعا الله بقوله: (رب اجعل هذا البلد امنا) فكانت الاولوية للاوطان وليس للاديان دون تعارض. (رحيم ابو رغيف /...
ثامر الهيمص
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram