TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > انهيار القيم من أخطر مآلات الفساد

انهيار القيم من أخطر مآلات الفساد

نشر في: 8 أغسطس, 2023: 11:57 م

د. حيدر نزار السيد سلمان

شهدت السلطةُ الاجتماعية في العراق بعد ٢٠٠٣ بفعل التغيير السياسي انتقالات طبقيّة غير منطقية خلخلت التدرّج الاجتماعي الطبيعي الذي يستند إلى عوامل التعليم والعمل وفائض القيمة والجهد الفكري والإبداع. وخلال مدة زمنية قصيرة زمنياً برز أشخاص وعوائل تسلّقت السُّلَمَ الاجتماعي بطريقة غير منطقية دون معايير للنفاذ الاجتماعي والترقي الطبقي، من حضن البروليتارية الرثة إلى قمّة السُلم الاجتماعي، إذ لم تمر عبر تطورات عِلمية وتراكم طبيعي للثروة. كما أنّها تجاوزت التراتبية الاجتماعية بصعودها السريع الصادم.

إنَّ الحالةَ السلطوية الجديدة هذه، وكذلك سيطرة أحزاب دون جمهور تفتقد لرجالات سياسة حقيقيين، وَفَّرَ مجالاً لمجاميع من انتهازي الفرص وعوائل لم تك معروفة بالثراء والنفوذ الاجتماعي، إذ راحت تستغلّ هذه الأوضاع وقد مكنتها روحُ المجازفة والفراغ النخبويّ عبر التهميش وعدم الانسجام مع إيديولوجيات وطروحات السلطة وأحزابها، لِتملأ الفراغَ بأساليب الإقحام في شؤون ليس من أصل اهتمامها أو من انشغالاتها العَمَليّة. وتمكنت من تحقيق طموحاتها بالثروة والنفوذ والسلطة، غير أنّها بقيت غير قادرة على تعزيز رأسمالها الثقافي ناقلةً معها سلوكيات وتصرفات تعتمد الحيلة والمجازفة كوسيلة مريحة للصعود والقفز فوق معايير التراتبية الاجتماعية. وقاد ذلك إلى الحاق أضرار خطيرة بالقيم الاجتماعية والمقومات المؤهلة للصعود والترقي والبَعث برسالةٍ خطيرة مفادّها أنَّ الحيلة والمجازفة والانتماء للأحزاب يمكن أن يكون طريقاً معبّداً للثراء، وبعيداً عن المؤهلات العِلمية والإبداعية والعمل المثمر. وكان من تداعيات هذا الانقلاب في التراتبية الاجتماعية وبروز الأشخاص المنتقلين طبقياً بشكل غير منطقي، استشراء حالات الفساد الأخلاقي والقيمي والرثاثة السلوكيّة والتغني بالانحطاط والوضاعة والاستفزاز لقيم مجتمعية رصينة، ومن ثَمَّ اندفع أفرادُ الطبقة المزيفة المترفة هذه نحو انتهاك العديد من الأعراف والسلوكيات الضابطة! فعلى سبيل المثال كان الأنموذج الأبرز متمثلاً باتخاذ المحظيات، أو الخليلات، أو العشيقات كجزءٍ من الحياة السرية المخملية لهذه الفئة المغنية بالثروة والفاقدة لأنماط السلوك الأرستقراطي الذي تحاول محاكاته وتقليده بطريقةٍ مشوهة وإظهار حالة الترف الذي تعيشه، حتّى أصبح وجود المحظيات يذكرنا بتأريخهن في العصر العباسي الأخير بوصفهنَّ متنفذات يمتلكن زمام السيطرة على أصحاب النفوذ. وقد تعدى السلوك الناتج عن ثروات هائلة أغدقت بها السلطة على أفرادها والمتعاونين معها عبر صفقات مشبوهة واستغلال للسلطة والنفوذ، تعدى إلى حيازة المزارع وامتلاك القصور الفارهة في أرقى أحياء المدن. والمثير أنَّ أفراداً من هذه الفئة تحوّلوا إلى نجوم مجتمعية بفضل ترويج وسائل التواصل الاجتماعي لحياتهم الشخصية برغبة منهم وعبر إظهار أرتال سياراتهم الحديثة أو مقتنياتهم من الساعات الثمينة (لونجين، فليب باتك، رولكس)، وما يرتدونه من ملابس من نوعيات وعلامات مشهورة، وكان للمسابح بأنواعها الغالية ميزة عند هؤلاء، فقد أصبح لها تجارتها الرائجة عند هذه الفئة المندفعة بملذاتها.

تشكّلت هذه الفئة الطارئة بفعل ظروف طارئة من خلال الاستيلاء على المال العام ونهبه، مثل شخصيات من قبيل نور زهير المثير لِلجدل والمتحالف مع قوى سياسية سهّلت أمرَ سرقته، أو من خلال صفقات مشبوهة، أو بتحالف مع رأس مال أجنبي كطبقة كومبرودارية أوجدها الانفتاح التجاري بعد ٢٠٠٣ وكونها قريبة من السلطة أو سلطوية. فقد أزاحت بميكافليتها وفقدان أخلاقيات المنافسة رجالَ الأعمال والتجار الحقيقيين. وعلى الرغم من صعودها السريع المفاجيء وانتقالها الطبقي غير أنّها أبقت على مسحة دينية تسربلت بها كوسيلة لِتحسين صورتها وإبعاد الشبهات عنها أو لتطهير أفعالها وسلوكياتها التي تتنافى مع الأعراف الاجتماعية. بيد أنَّ ذلك لم يعد مجدياً، لا سيما أنَّ أفراد هذه الطبقة استعجلوا إعلان ثرائهم والاستمتاع بها بأشكال متنوعة مثيرة للحسد أولاً وللغضب الشعبي ثانياً، وبحسب المعطيات المرئية أنّها سادرة في هذا الاتجاه تكشفها فضائح ما تنشره و سائل التواصل الاجتماعي التي تحولت إلى نقمة بعد أن أرادتها أن تكون معبرة عن نعمتها وترفها.

عكست سلوكيات هذه الطبقة وتصرفاتها معان الرثاثة والقبح وانهيارات قيمية كانت تشكّل عوامل ضبط وموانع تصدّ الأفعال المشينة كالسرقة والاختلاس ونهب المال العام وكأنَّ الهدفَ شرعنة ذلك. وخلق حالات شاذة لتتحول إلى قدوة في الشيطنة واستباحة المال بالحيلة والوسائل الذميمة اجتماعياً والحثّ على المحاكاة بوصفها أفعال ووسائل شرعية.

سمحت الظروف السياسية للتحولات الاجتماعية بصياغة علاقات اجتماعية جديدة وشيوع أنماط من السلوكيات المقترنة بالواقع الجديد تشي بصراحة أنَّ المبادئ التربوية الثقافية مثل النزاهة والعمل والجهد والتعليم وأخريات غيرها لم تعد ميزات لِلوجاهة والمكانة الموقرة، بل هي محصلات ستتبع بلوغ الثراء حتّى بالوسائل المرفوضة من المبادئ الضابطة، وإنَّ نزعةَ التملك الفوضويّ الجشع تحققت في ظلّ ضعف الدولة ورقابة مؤسساتها. والغريب أنَّ الأمرَ أمسى طبيعياً، إذ يطلع الناسُ بين مدة وأخرى على حالة جديدة، ورغم ذلك ما زالت الدولة بسلطتها لم تقم بواجباتها مع التذمر الشعبي المتفاقم.

ما يمكن الإشارة إليه في هذا الصدد أنَّ طبقةً مترفةً قد تشكّلت، وهي متنفذة بما يصعب محاسبتها ومسائلتها، وأنّها تستمتع بثروات هائلة قد تعادل ميزانيات دول! لكنَّ الأمرَ الهام الذي نؤكده هو ما سيلحق بالقيم والأعراف الاجتماعية من دمار وإضعاف، لا سيما أنَّ الأوضاع العامة تساعد على ذلك، وبالتالي فإنَّ شيوع ظاهرة الثراء السريع عبر أساليب سوداء سيكون له تداعياته الخطيرة إن لم تتحرك القوى السلطوية والاجتماعية والدينية لإيقاف فوضى التسلّق الاجتماعي الشاذ وغير الطبيعي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: حدثنا نور زهير!!

وراء القصد.. ولا تيفو.. عن حمودي الحارثي

شعراء الأُسر الدينية.. انتصروا للمرأة

فشل المشروع الطائفي في العراق

العمودالثامن: فاصل ونواصل

العمودالثامن: حين يقول لنا نور زهير "خلوها بيناتنه"!!

 علي حسين إذا افترضا أن لا شيء في السياسة يحدث بالمصادفة، فإنه يفترض أن نوجه تحية كبيرة للذين يقفون وراء كوميديا نور زهير الساخرة ، فبعد أن خرج علينا صاحب سرقة القرن بكامل...
علي حسين

باليت المدى: الرجل الذي جعلني سعيداً

 ستار كاووش كل إبداع يحتاج الى شيء من الجنون، وحين يمتزج هذا الجنون ببعض الخيال فستكون النتيجة مذهلة. كما فعل الفنان جاي برونيه الذي أثبتَ ان الفن الجميل ينبع من روح الانسان، والابداع...
ستار كاووش

كلاكيت: ألان ديلون منحه الطليان شهرته وأهملته هوليوود

 علاء المفرجي في منتصف السبعينيات شاهدت فيلمه (رجلان في مأزق) وهو الاسم التجاري له، في سينما النجوم في بغداد، وكان من إخراج خوسيه جيوفاني، ولا يمكن لي أن انسى المشهد الذي يوقظه فيه فجرا...
علاء المفرجي

شراكة الاقتصاد الكلي والوحدة الوطنية

ثامر الهيمص وقد اراد الله ذلك فاستهل النبي ابراهيم عبادته وهو(الدعاء) الذي يعد (مخ العبادة) فدعا الله بقوله: (رب اجعل هذا البلد امنا) فكانت الاولوية للاوطان وليس للاديان دون تعارض. (رحيم ابو رغيف /...
ثامر الهيمص
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram