TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > مـذبحـة سـمـيـل: الإبادة الجماعية المتوطنة في الثقافة السياسية العراقية

مـذبحـة سـمـيـل: الإبادة الجماعية المتوطنة في الثقافة السياسية العراقية

نشر في: 8 أغسطس, 2023: 11:59 م

بعض الاسئلة والإشكاليات وفقا لأطروحة الاستمراية

سعد سلوم

منذ غزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003 تجذب محنة المسيحيين بطوائفهم المختلفة (من ضمنهم الإشوريين) انتباه وسائل الاعلام العالمية، مقدمة تصورا محبطا عن مستقبل هذه الأقلية الدينية الألفية في العراق والشرق الأوسط.

هيمنة الصورة المأساوية عن مصير المسيحيين تعد تمثيلا نموذجيا لما أطلقت عليه: نمط المعرفة بالصدمة. وهي صورة تعيق فهم تاريخ ومستقبل ومسؤولية المسيحيين خارج التنميط لهم بوصفهم ضحايا او مجرد دمى تتحرك على مسرح الشرق الأوسط. ولكي نتحرر من هذه الهيمنة او البارديغم paradigm من الضروري دراسة أوضاع المسيحيين ضمن أطروحة الاستمرارية Continuity thesis في سياق شرق أوسطي متغير منذ الحرب العالمية الأولى. وهي فرضية تقوم على تحليل الصلات بين العديد من الحلقات التي تعاملت بها دول المنطقة مع أقلياتها الدينية، على نحو يتم فيه وضع كل حدث في سياق من هذه الاستمرارية.أي، بعبارة أخرى، دراسة صلة التغيرات السياسية العنيفة في المنطقة والتدخل الدولي بالإستنزاف البطيء (في عقود معينة) والمتسارع في أقل من عقد (بعد الغزو الاميركي) للوجود المسيحي في العراق والشرق الأوسط.

يمكن تفكيك تعقيدات المشهد السياسي للمسرح الأقليمي من خلال تحليل سياق الاستمرارية: تأثير سنوات الحرب العالمية الأولى ومخرجاتها على الاشوريين وتأسيس الدول الوطنية المستقلة عن الإرث العثماني وما تبعها من عقود صعبة (لا سيما في الثلاثينيات)، مرورا بثورات القومية العسكرية على الانظمة الوطنية الملكية في الخمسينيات، والحروب الاقليمية مثل الحروب العربية مع اسرائيل 1948، 1967، 1973، الحرب الاهلية اللبنانية 1975-1990، الغزو الاسرائيلي للبنان 1982، الحرب العراقية –الايرانية 1980-1988، وصولا الى نقطة الذروة في حرب الخليج 1991 و التدفق المستمر للاجئين إلى غرب آسيا وأوروبا والولايات المتحدة وأستراليا، بعد تلك الحرب والعقوبات الاقتصادية الشاملة في التسعينيات 1990-2003، والغزو الاميركي للبلاد 2003 وفواعل ثورات الربيع العربي 2011، وانتهاء بغزو داعش الوحشي 2014.

كذلك فإن القراءة الشاملة وفقا لاطروحة الاستمرارية، لا تفصل "مذبحة سميل" عن جذورها في المذبحة التي شنها السلطان العثماني ونفذها نظام تركيا الفتاة ضد المسيحيين (أرمن وأشوريين) في ظل الإمبراطورية العثمانية في عام 1915، وكانت إبادة جماعية في طبيعتها، على الرغم من ان اتفاقية الابادة الجماعية لم تسن قبل عام 1948 ودخلت حيز التنفيذ في خمسينات القرن الماضي.

شكل اضطهاد الإمبراطورية العثمانية للمدنيين الآشوريين خلال الحرب العالمية الأولى شكلاً من أشكال الإبادة الجماعية، وقد ظهرت أدلة كثيرة على نية الإبادة الجماعية في شكل اعترافات من قبل المسؤولين العثمانيين. وكان هناك تركيز على مأساة الآرمن واعتراف متزايد بها من قبل اعضاء المجتمع الدولي في مقابل تردد وأهمال (له اسباب عديدة يمكن شرحها) في عدم الاعتراف بما أرتكب بحق الاشوريين واليونانيين (الروم الارثوذكس) في تركيا.

واذا انتقلنا الى السياق العراقي بوصفه سياقا فرعيا للمشهد الأقليمي، لا يستقيم تحليل مذبحة سميل، من وجهة نظري، على نحو منفصل عن هذا السياق التفسيري الأوسع الذي اطلقت عليه تسمية "اطروحة الاستمرارية"،. بالتالي من الصعب عزل هذا الحدث (في السياق العثماني) عن نظيره الأرمني، وكذلك لا يمكن عزله في السياق العراقي عن ما جرى من تمييز وعنف منهجي من قبل الدولة العراقية منذ ثلاثينيات القرن الماضي. وتحليل الارتباطات المختلفة والمتتابعة، تمكننا من تفسير المذبحة Massacre كشكل من أشكال الإبادة الجماعية المتوطنة Endemic Genocide في الثقافة السياسية السائدة للنخب القومية (التركية والعربية) استخدمت فيه وسائل مختلفة للتدمير.

مثل هذه المقاربة تفسر لنا طبيعة تمثيل المذبحة في الخطاب الثقافي السياسي السائد، فهي ليست تعليقا على حدث في الماضي، فالطرق التي تم بها تقديم "مذبحة سميل" في الأدب السياسي والصحفي والاكاديمي السائد وتمثيلها كصفحة في تاريخ الجيش العراقي او تاريخ العراق المعاصر تفك لغز الحاضر وتحولاته المأساوية، سواء كان حاضر العراق الملكي او الجمهوري في عهد الجنرال الثوري عبد الكريم قاسم 1958-1963 او عهد الاخوين عبد السلام وعبد الرحمن عارف 1963-1968 او في عهد صدام حسين الدموي 1979-2003 وصولا الى حاضر التدمير الهمجي لتنظيم داعش الارهابي للتنوع الغني في البلاد.

كانت "مجرزة سميل" موجودة في الوعي التاريخي العراقي المعاصر، حتى قبل أن يسقط النظام الملكي الذي ارتكبت في ظله عام 1933، وفي جميع قاعات المحاكم للانظمة السياسية المتعاقبة من محكمة المهداوي 1958 وصولا الى محاكمة صدام حسين 2005، كانت الجهود المبذولة للتعامل مع المذبحة الاشورية وفواعلها سمة ثابتة للثقافة الفكرية السائدة وهذه التمثيلات هي موضوع بحث مستفيض اعمل عليه حاليا.

لذا، اعتقد بإن استعادة "مذبحة سميل" في الوعي السياسي العراقي المعاصر، وفي وعي الثقافة السائدة في بلدان الشرق الأوسط ليست مجرد تمرين مقصور على فئة معينة من المثقفين والسياسيين، بل هي كاشفة عن انقلابات التاريخ. لا يمكننا فصل ما نعرفه عن المذبحة (او حتى ما لا نعرفه) عن الطرق التي تم إخبارنا بالحدث او (التستر عليه) او حتى نسيانه وإنكاره بطرق علنية او مستترة.

وفي هذه المعرفة او (اللامعرفة) يمثل النسيان أو الإغفال استراتيجيات متنافسة في كثير من الأحيان، اي بعبارة أخرى، نسيان الحدث او أغفاله (عن عمد او غياب الوعي به)، و جهل جمهور مختلف مكونات المجتمع العراقي به على نطاق واسع، لا يكشف فقط عن استراتيجيات الدولة الرسمية للتعامل مع اول مذبحة في تاريخها، بل تفصح ايضا عن استراتيجيات المظلوميات غير الرسمية المختلفة والمتنافسة على مسرح صغير مزدحم بالمذابح والإبادات الجماعية، والمقارنة بينها ستكون غير عادلة بالمرة، بل ستكون مقارنة شريرة، لانها تصبح تفاضلا بين ما لا يصح أخلاقيا مقارنته من العذابات المتناسلة: ما قيمة "مذبحة سميل" بالمقارنة مع حلبجة والانفال او المقابر الجماعية في التسعينات او جرائم دعش بحق مختلف مكونات المجتمع الأوسع في العراق وسوريا؟

على صعيد داخلي، هل يكشف هذا النسيان عن اخفاق النخب السياسية والثقافية الاشورية في تحويل المذبحة الى مثال معروف وجزء من التاريخ الوطني او جزء من نسيج التراجيديا العراقية الكبرى.؟

هل يمكن تفسير الفشل والضعف بوصفه من الفواعل المستدامة للمذبحة بطريقة الإبادة الجماعية عن طريق الاستنزاف Genocide by Attrition؟، أم إنه يعكس خللا بنيويا يفضح مقدار عزلتها عن ثقافة المجتمع وضعف خيالها السياسي ازاء قوة استراتيجيات المظلوميات غير الرسمية المنافسة، وعدم تمكنها في صياغة خطاب موحد في ظل بيت مسيحي منقسم ومتشظي ومعرض للتوظيف السياسي لمصالح التيارات السياسية للجماعات الأكبر أوالمرتهن لمصالح نخب سياسية ضيقة تتعامل مع الهوية الاشورية بطريقة المقاولين والمتعهدين؟.

ما تقدم من اسئلة اشكالية، لا ينفي (بل يؤكد) حاجة النخب الثقافية الوطنية العراقية على اختلاف توجهاتها الايديولوجية وخلفياتها الإثنية الى دراسة مستفضية وعميقة للحدث ودلالاته وإعادة قراءته في كل مرة، تمهيدا لإستعادته ضمن سياق التاريخ الوطني المعاصر للبلاد. اعتقد أن دراسة المذبحة ضمن أطروحة الإستمرارية مقدمة مناسبة لذلك، بالتالي تصبح دراسة السياقات التي نشأت منها التواريخ المتنافسة والمتداخلة ضرروية لفهم أكبر وأكثر دقة للماضي نفسه، الماضي الذي يفسر اختلال الحاضر وتصدعه.

في هذا السياق التفسيري، تصبح مجرزة سميل سؤالا مفتوحا عمن نكون وماهية هويتنا. يمكن تمثيلها كماض راهن يمهد للمستقبل، يمكن لها ان تفسر ولا تتطلب التفسير فحسب، إذ تصبح المجزرة تعبيرا عن مأساتنا جميعا.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: حدثنا نور زهير!!

وراء القصد.. ولا تيفو.. عن حمودي الحارثي

شعراء الأُسر الدينية.. انتصروا للمرأة

فشل المشروع الطائفي في العراق

العمودالثامن: فاصل ونواصل

العمودالثامن: حين يقول لنا نور زهير "خلوها بيناتنه"!!

 علي حسين إذا افترضا أن لا شيء في السياسة يحدث بالمصادفة، فإنه يفترض أن نوجه تحية كبيرة للذين يقفون وراء كوميديا نور زهير الساخرة ، فبعد أن خرج علينا صاحب سرقة القرن بكامل...
علي حسين

باليت المدى: الرجل الذي جعلني سعيداً

 ستار كاووش كل إبداع يحتاج الى شيء من الجنون، وحين يمتزج هذا الجنون ببعض الخيال فستكون النتيجة مذهلة. كما فعل الفنان جاي برونيه الذي أثبتَ ان الفن الجميل ينبع من روح الانسان، والابداع...
ستار كاووش

كلاكيت: ألان ديلون منحه الطليان شهرته وأهملته هوليوود

 علاء المفرجي في منتصف السبعينيات شاهدت فيلمه (رجلان في مأزق) وهو الاسم التجاري له، في سينما النجوم في بغداد، وكان من إخراج خوسيه جيوفاني، ولا يمكن لي أن انسى المشهد الذي يوقظه فيه فجرا...
علاء المفرجي

شراكة الاقتصاد الكلي والوحدة الوطنية

ثامر الهيمص وقد اراد الله ذلك فاستهل النبي ابراهيم عبادته وهو(الدعاء) الذي يعد (مخ العبادة) فدعا الله بقوله: (رب اجعل هذا البلد امنا) فكانت الاولوية للاوطان وليس للاديان دون تعارض. (رحيم ابو رغيف /...
ثامر الهيمص
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram