د. فالح الحمراني
الديمقراطيات غير الناضجة في الدول النامية والفقير التي تعد الديمقراطية في العراق واحدة منها، البلدان ذات الإرث الديكتاتوري والشمولي وعدم الخبرة والمتخلفة اقتصاديا، تشق طريقها بصعوبة وبطء، وسط أنقاض الماضي وغياب المؤسسات والتقاليد والثقافات الديمقراطية الراسخة،
ويعترضها الفساد الحكومي والنخب التي تتعارض ومصالحها، فضلا عن التقاليد والعادات البائدة، وانتهاك القانون بصورة منهجية، ولكن لا ينبغي أن يكون هذا سببا في الإحباط، والتخلي عن المنجزات التي تم إحرازها بالتضحيات الكبيرة على طريق الديمقراطية، بل المضي قدما بإصرار، وخلق الأجواء لازدهارها ورسوخ جذورها في الوعي الاجتماعي. ويستدعي ذلك تآلف القوى الديمقراطية فعليا، وتأسيس هيئات المجتمع المدني وتفعيل القائم منها، وتكثيف وسائل الإعلام وفعاليات الاحتجاج السلمية، وفضح ممارسات انتهاك القانون وحقوق المواطن والأقليات، ممارسة المجتمع حقوقه المنصوص عليها في القوانين بشتى الأشكال. وما لم تضمن الدولة سيادة القانون والمؤسسات السياسية المستقلة، فلن تكون قادرة على ضمان نمو اقتصادي مستقر. وهذه هي المشكلة الرئيسية لمعظم الديمقراطيات غير الناضجة.
مع نهاية الحرب الباردة، جاء عصر جديد، نشأت ظاهرة جديدة في تاريخ العالم تمثلت بظهور عدد كبير من الديمقراطيات الفقيرة وغير الناضجة. وحتى الآن ثمة أكثر من 70 دولة لا يتجاوز ناتجها القومي الإجمالي 10000 دولار أمريكي للفرد، ولكنها تتبنى القواعد الرئيسية للحكم الديمقراطي. وموقف الغرب تجاه هذه البلدان هو في الأساس رافض ومتغطرس. وعند القراءة عنها، نتعرف على صعوباتها الاقتصادية وفساد الحكومات وانعدام الثقة في الآفاق. ومع ذلك يمكن أن يبعث وجودها الأمل، حتى كأمثلة جيدة للانتصارات على أنظمة الحكم الديكتاتورية والشمولية، أو تكريما للمثل العالمية للحرية والحكم الذاتي.
إن من المشاكل التي تعطل الممارسة الديمقراطية في هذه الدول إنها فقيرة حقا. إنها تواجه مشاكل اقتصادية خطيرة، ومجتمعاتها المدنية متخلفة وفق المعايير الغربية. ولكن ورغم من أوجه القصور الواضحة، تتميز هذه البلدان بوجود الحقوق الفردية الأساسية والحريات السياسية. ويتمتع سكانها بحرية التعبير، والحق في الاستئناف أمام السلطات، وحرية التجمع والسفر إلى الخارج. وبميسور قوى المعارضة تشكيل جمعياتها الخاصة والمشاركة في السياسة وانتقاد السلطات وتوزيع مواد حملتها والمشاركة في انتخابات حرة ونزيهة إلى حد ما للسلطات المحلية والوطنية، في حين أن نتائج هذه الانتخابات ستعكس (ولو أحيانا بصورة شكلية) في النهاية إرادة الأغلبية. وأخيرا، توجد في البلدان الديمقراطية غير الناضجة صحافة خالية من رقابة الدولة. وهذه الخصائص تميز الديمقراطيات الفقيرة من الدول غير الديمقراطية ومن الأنظمة الديمقراطية الزائفة المختبئة وراء السمات الديمقراطية الخارجية، ولكنها لا تمتلك أيا من هذه الميزات أو عدة في وقت واحد. لقد تشكلت العملية التاريخية خلال معظم القرن الماضي، من خلال المواجهة العالمية بين الديمقراطية والشمولية، والتي مثلتها القوى الصناعية والعسكرية الرائدة: الولايات المتحدة وألمانيا واليابان وروسيا والصين. وهناك قناعات بأن تطوير الديمقراطيات الفقيرة سيحدد إلى حد كبير مسيرة تاريخ القرن 21.
وصلت الدول الديمقراطية الفقيرة والغنية إلى تطوير المؤسسات الديمقراطية بطرق مختلفة تماما. ومر الغرب بعدة قرون شهدت الانعطافات والثورات والاضطرابات ليتشكل النظام الرأسمالي الذي كان له وجها بشعا، قبل أن تتوصل للديمقراطية الراهنة.
إن تجربة البلدان الديمقراطية غير الناضجة هي عكس تجربة الديمقراطيات الغربية من نواح كثيرة. فلم يتم تشكيل المؤسسات الحديثة والمعايير والممارسات الأخلاقية والقانونية في هذه البلدان بسبب هيمنة نظام شبح (الأنظمة السابقة). وكانت معظم الديمقراطيات غير الناضجة تفتقر إلى ثقافة مدنية وثقافة القانون ومنح الحريات العامة.
إن بوسع للثقافة أن ضع العراقيل والحواز العالية في طريق انعدام القانون والفساد الحكومي والرشوة من خلال تراكم الخبرة لسنوات عديدة للتسيير الذاتي على مستوى المدينة، في الأماكن الدينية، والنقابات المهنية، والمنظمات الخيرية المحلية، والفصل في وقت واحد بين المجالات الاقتصادية والسياسية. فأي شخص يصوت بحرية لإنشاء صندوق محلي للمساعدة المتبادلة، وشارك فيه سيفكر مئة مرة قبل أن يسرق منه أو ينتهك القاعدة التي قرر، مع الجميع، دعمه. إن الفساد، الذي يستشري بوتيرة عالية بعد الانتقال السريع للديمقراطيات غير الناضجة والارتقاء نحو أنظم الحكم الحديثة ما زال بدرجات متفاوتة، ولكن دائما إلى حد كبير جدا، يمنعها من التطور. بالطبع، حتى تجربة الغرب التي استمرت قرونا لم تكن تخلو من الاحتيال والرشوة في المراحل لأولى لتشكيل الرأسمالية. ومع ذلك، في البلدان الديمقراطية غير الناضجة، ينتشر الفساد بشكل منهجي. وهذه هي واحدة من القضايا الرئيسية للسياسة الوطنية للعديد من الدول.
في البلدان التي ظهرت فيها الديمقراطية بشكل غير متوقع أو نتيجة تدخل خارجي، تنتزع عادة من الدكتاتور السابق أو حزبه ممتلكات الدولة التي تكون تحت حراسة أسلحة الجيش والشرطة السرية، ويُعهد برعايتها لمجموعة من السياسيين الديمقراطيين من الجيل الأول الأقل تراصا، ولكن التعجيل بإلغاء ملكية الدولة أو سيطرتها على الاقتصاد يؤدي إلى تحويل ممتلكات الدولة إلى اللصوص والسراق والمحتالين الذين يستولون عليها بمختلف الأساليب حتى الشبه قانونية.
السمة المميزة الأخرى للديمقراطيات الفقيرة هي جمع ليس له نظير في التاريخ بين الانتخابات القائمة على الاقتراع العام، مع رأسمالية وليدة لم تتشكل بعد ذات طبيعة قاسية، التي أطلق عليها ماركس رأسمالية "مرحلة التراكم الأولية". وبينما ظهر الاقتراع بعد الرأسمالية بقرن في الغرب، وضعت غالبية مجتمعات الديمقراطيات غير الناضجة، ولا سيما دول ما بعد النظام الشيوعي، الديمقراطية كهدف اجتماعي أكثر أهمية، وجاء بناء الرأسمالية في المرتبة الثانية فقط، وليست البند الرئيسي في أولويات الأجندة الوطنية.
ورغم كل المصاعب والعقبات والفساد الحكومي فإن الديمقراطية غير الناضجة تبدي القوة والشجاعة في التغلب على الأزمات الداخلية والدولية، ويكمن أمل كبير في تنمية الديمقراطيات غير الناضجة في السنوات القادمة للحد من الفقر والحد من العنف في العالم.