حيدر المحسن
استعرتُ عنوان المقال من المجلّة الطبيّة
( المعروفة في الوسط الطبّي، التيMIddle east journal of digestive diseases)
تنشر في كلّ عدد فصلا عن تجربة صعبة لطبيب، وشديدة الوقع عليه ولا سبيل لنسيانها، وربما كان تدوينها بشكل مقال أو قصّة يساعده في تقليل آثار انعكاسها في نفسه. إنّ الكتابة تؤدي بنا إلى التحرّر من الأثقال التي تحمّلنا بها الحياة فوق طاقاتنا، نوع من العلاج اختارته هيئة تحرير المجلّة للأطبّاء كي يشفوا من تجربة مريرة مرّوا بها، وفي هذا تفسير لقول نيتشه الشهير: "نحن نذهب إلى الأدب لكي لا نموت من الواقع". لكن المجلّة الطبيّة اشترطت على كاتب المقال أن يدوّن عذابه الأشدّ في محنة مرّ بها في أثناء اشتغاله في مهنة الطّبّ، واختارت لجميع الأطّبّاء عنوانا واحدا للمقال هو:
(Once in my life)
جرت هذه الأحداث في اليوم الأخير من الانتفاضة الرّبيعيّة عام 1991، وكنتُ أعمل طبيبا في مستشفى يقع عند مشارف المدينة، عندما اقتحمته قوّات الحرس الجمهوريّ التي كانت مهمّتها إنهاء الانتفاضة بأيّ ثمن. انتشر الجنود في أرجاء المبنى، وكانوا يُطلقون النّار أو يعتقلون كلّ من يصادفونه من الرّجال الملتحين، لأنّ في ذلك دلالة – حسب تقديرهم - على انتمائهم إلى حزب أو جهة إسلاميّة معارضة للنّظام الحاكم. لم أكن منتمياً إلى أيّ جهة دينيّة سياسيّة أو غير دينيّة، وفي ساعة تجد نفسك محاصرا من جميع الجهات، وليس هناك من حلّ إلّا بالتخلّص من هذه الشّبهة. كان مسكني يقع في (دار الأطبّاء) بعيدا عن المشفى بحوالي 500 متر، وفي تلك الليلة بات أمر القفز إلى هذا المكان لغرض الحلاقة ضربا من المستحيل، لأن جنود الحرس منشرون في كلّ مكان في الخارج والداخل.
ما العمل؟
اخترتُ التّجوّل في أنحاء المشفى المظلمة، وعليكَ أن تعثر وسط العتمة الشديدة على شفرة للحلاقة، ولمّا استحال عليّ الأمر في الردهات الخاصّة بالمرضى، لأنها كانت فارغة في تلك الأيّام، قصدتُ صالة العمليّات الكبرى، لعلّ المِشرط الذي يستعمله الجرّاحون يفي بالغرض. جرّبتُ النّوع الذي عثرتُ عليه وفشلت، إلّا إذا كنتُ أشاء تشريح وجنتي وخدّي وتشويه وجهي إلى الأبد. كان الموقف يتصاعد في خطورته، لأن صياح المعتقلين أخذ يملأ الجوّ، وصراخهم واستغاثاتهم، وكان الجنود يفتّشون كلّ سنتيمتر مربّع من المكان، وعليّ أن أجد حلّا، وإلّا كان مصيري مثلهم.
ما العمل؟
في ذلك اليوم كانت السماء تمطر ببطء ولكن دون توقف، وعندما حلّ المساء كانت الظّلمة شاملة في المبنى حتى أنّي كنت أغلق عيني من أجل أن يزداد تركيزي، وفجأة فتحتُ عيني ورأيتُ القمر يطلع بين الغيوم، وبدأ ينير النافذة الواسعة في مطبخ يقع في الجوار من صالة العمليّات، اهتديتُ إليه عن طريق الذّاكرة لا البصر، لأن هذا تعطّل بسبب الظّلام. برقت عند حافّة حوض غسيل الصّحون موسى للحلاقة مستعمل وقديم ويغطّيه الصّدأ. من دون مرآة حلقتُ ذقني بالتّلمّس، على طريقة كولونيل ماركيز الذي لا يراسله أحد، وكنت برفقة بدر يتوسّط سماء ربيعيّة صافية كانت نجومها تحرسني وأنا أتخلّص من لحية نمت على وجهي مدّة أسبوعين، وأكثر، وكان الماء يرسلها إلى المجرى أسفل الحوض سريعا. كما أنّه عليك أن تعمل في عُجالة لأنّ خطوات الجنود صارت قريبة، وها هم يدخلون المكان، وكُتِبَ لي النجاة من القتل الفوريّ، أو الدفن حيّا في مقبرة جماعيّة، وكان الأمر متعلّقا بآخر شعرات ذِقني...
في كتابها "الاعتراف بالقصّة القصيرة" تقرّر أستاذة الأدب الإنكليزي (سوزان لوهافر) أنّنا جميعا نستطيع أن نؤلّف قصّة واحدة، قوامها الأحداث التي مرّت بنا، ومنها ولدنا أو كان من الممكن أن نفنى. من يراجع مقالات المجلّة الطبيّة التي ذكرتها يكتشف أنّ حياتنا تتألّف من ومضات يأتي بها القدر ويغيّرها دون سابق إنذار إلى الأحسن أو الأسوإ، أو ما نظنّه نحن أسوأ وأحسن، لأن تقدير ذلك في الأخير ليس في متناول أيدينا، مع الأسف الشديد.