طالب عبد العزيز
يضيع بحرُنا لأننا لا نعرف عنه شيئاً، ولأننا لم نصله حتى، ولم نره في حلم، هو اسفل الخريطة نعم، لكنه منخرنا الوحيد، الذي يوصلنا بزرقة الماء ورطب الهواء وبحار العالم، لأن أقواتنا تأتي وتخرج منه. العراقيون أجمعهم والبصريون كذلك، باستثناء بحارتهم وصيادي الأسماك ومهربي النفوط لا يعرفون الطريق اليه، وكم يستغور ماؤه من السفن والزبد والشموس، ولا من اين يؤتى ساعة تحين تحية الوداع.
ساحله هو الوحيد بين السواحل الذي لم يستحم به عراقي واحد، ولم يكُ مقصداً سياحياً ذات يوم، ولم تفكر مدرسة وجامعة بحمل طلابها اليه، والوقوف على مائه، ومعرفة ما إذا كان ماءً أم رملاً يبساً بعيداً. ولماذا لم يتأسس البحر في ثقافتنا، هذا الغائب الكليّ، ولماذا يُزهدُ به، مع أنَّ ثقافات العالم تعجنه وتطبخه في أعمالها، بوصفه روح كلِّ مكان، وخلاصة كل قرب ونأي. يقول محمود درويش:" نأخذ الاطفال الى البحر لكي يثقوا بنا" لكنْ، لا أحدَ منا فكر بأخذ أطفاله اليه، هذا الشيخ الجالس اسفل الخريطة لماذا لا نلبي نداءه؟ وحتى مَ تدخله البوارج لإسقاط الانظمة، ويغلقه أو يبيعه الخونة والمتآمرون؟ إنه بحرنا، بحر البصرة وطريدون وباصورا وطريق الهند الذي كان يصل الأُبّلة ليأتي العالم.
لا أكتب مرثيةً، ولن أعيب على المشَّائين الى الاضرحة فعلهم، هم يرثونه من حيث لا يعلمون، وهذا ما أكرهه له، لأنني، أريده فسحة في الجمال، باباً للمديح وإتيان الشمس. الغيمة التي على البحر لا تشبه الغيمة على اليابسة، هي اندى وأطهر وأعف، والريح الشرقية التي تحمل طلائع الخريف إلينا تأتي منه، والسفن التي تغادره في الفجر بالشباك وبقيا النجوم هي التي تملأ بيتنا بالسمك والرز والخيول. أبحث عمن يقصده بخيمة وصنارات وزجاجات ماء قراح أو غير قراح، مع نفر من ابنائه واصدقائه ونسائه، ويضاعف أعدادهم، حتى يبدون أكثر وأكثر، أريد أنْ أكثر السواد هناك، لا أريده محروما من ابنائه، هذا الشيخ الحزين الجالس اسفل الخريطة.
معيبٌ على العراقيين جميعاً، أنهم لم يرو بحر البصرة بعد، ومعيب أن نجعله ثغراً لدخول الغزاة حسب، ففي قرن واحد دخله المستعمر الاشقر مرتين، ولم تقف سفننا مدرعةً ذائدة عنه. أصيح بكم جميعاً: تعالوا نبني القلاع على ساحله، من الحديد أو الجذوع أو من الدموع والمآقي حتى إذا كنا لا نريده ماءًا أزرقَ، فارقاً بين المياه، معيب أن نقف عليه لنتأمله ساعة تغادره بوارج المستعمرين. وإذا كان لابدَّ فتعالوا نشيدُ عند ساحلة القصير مقهى صغيراً، بمقاعد من سعف وقصب، يجلس الشعراء فيه يكتبون آخر قصائدهم عن الفراق. من لا يحسن رفقة البحر سيتركه، ومن لم يتأمل فتوّته قربه سيهزل سريعاً، ومن لم يأخذ حبيبته اليه ستهجره باول قبله، ومن لا يهتدي لرماله بقدمه سيصبح كسيحاً ذات يوم.
أيها المقاولون المرابون، ياسادة الشركات والمال الحرام، أيها الفاسدون، وأرباب التجارة السحت يامن تأخذون حقائبكم الى عمّان ودبي وسيشيل، أنتم وأمثالكم من محدثي النعمة أدعوكم للاستثمار هنا، على ساحله، خذوا ملاينكم الى البحر وابنوا المنازل والكافيهات وصالات القمار وقاعات الرقص والخمارات وبيوت الدعارة.. اتركوا بغدادكم وجادريتكم وكرادتكم وتعالوا هنا، علكم بذلك تشيرون للعالم الى بحر البصرة، وتعلمون الدنيا بأنها ليست أرض نفط وعشائر متنازعة. . سنتبعكم اليه، ذلك لأننا لا نجد فيكم القدرة والاهلية حسب، إنما الغيرة والنجابة وخيركم من وقف عند الدعامة 106.