لطفية الدليمي
الذكاء الاصطناعي هو عنوان عصرنا. هو أكبر من محض انعطافة تقنية أو علمية أو فلسفية. الذكاء الاصطناعي عنوانٌ لانتقالة حضارية ومعرفية شبيهة بولوج عالم لانعرف عن ممكناته شيئاً، وكلّ مانعرف هو آمال عريضة تمازجها مخاوف وهواجس مسوّغة وإن كانت بعيدة أحياناً عن العقلنة.
الاهم من كلّ هذا هو أنّ الذكاء الاصطناعي بات يمثلُ نمطاً من الاهتمام الجمعي الذي يتجاوز محدّدات قاعة الدرس الاكاديمي ومختبرات الواقع المرئي؛ بل نستطيعُ القول أنّ نطاقات قاعات الدرس الاكاديمي ربما لم تعد تستطيع مسايرة الخلفيات الفلسفية والحوافز المعرفية المشتبكة التي تتطلبها دراسة الذكاء الاصطناعي. نعرف أنّ قاعات الدرس ستقتصر على بضعة تفاصيل تقنية متقادمة لاتستطيع في الغالب التقدّم بنفس وتيرة التقدم التقني الحاصل في جبهات متقدمة في الذكاء الاصطناعي أو في حقول معرفية قريبة منه وهي حقول تشتمل على علم النفس الادراكي والبيولوجيا العصبية والنظم الدينامية المعقدة فضلاً عن المترتبات الفلسفية على كلّ حقل معرفي ومايفترضه من محدّدات عندما يشتبك مع غيره من الحقول.
لم يعُدْ مقبولاً تركُ الاقدار تفعل مفاعيلها بنا حتى لو كانت حكوماتنا عاجزة وعابثة بمقاديرنا. لابدّ من بحّاثة متمكّنين في ميادينهم وقادرين على نقل بعض الحمولة البحثية المتسارعة للقارئ العام بكيفية مقبولة من غير رطانات لغوية أو لعب على مفردات التقنية. نحتاجُ أناساً خُلّصاً يدركون شرف المسعى وثقل الواجب الذي تقدّموا متبرّعين للكشف عن تضاريسه المجهولة ومايمكن أن يفعله من إعادة تشكيل الخارطة البشرية في السنوات القادمة.
يحضرني في هذا المقام الدكتور محمّد زهران الذي عكف منذ سنوات على كتابة مقال أسبوعي (كلّ يوم سبت) في صحيفة الشروق المصرية. الدكتور زهران يعمل أستاذاً لعلم وهندسة الحاسوب في جامعة نيويورك الامريكية، وهو فضلاً عن ميوله التقنية والعلمية ذو ذائقة فلسفية تستطيب الحديث في فلسفة العلم وتاريخه. لاأريد عمل دعاية مجانية للرجل وإن كان يستحقها بكلّ جدارة. جرّب أن تقرأ مقالته الاسبوعية المنشورة في صحيفة الشروق وستكتشف بنفسك حجم الخبرة التي ينقلها لك الرجل مخلصاً – تلك الخبرة التي تتمحور على الذكاء الاصطناعي لكنها تتجاوزه نحو آفاق كبيرة، ولعلّ كون الرجل بروفسوراً في جامعة أمريكية هو عنصر مساعدٌ في رغبته لنقل مايدور في الكواليس الاكاديمية التي تخفى علينا. تعلّمتُ شخصياً الكثير من التفاصيل الدقيقة في مايخصُّ فلسفة العلوم والتقنية وكيفية تحديد التخصيصات المالية للأبحاث في كبريات الجامعات الامريكية. أظنّ من المناسب الاشارة إلى أنّ الدكتور زهران يظهر في العديد من الفيديوهات التي يحكي فيها عن مفاعيل الذكاء الاصطناعي. يحكي بأبسط لغة لاتتجاوز العامية المصرية؛ لكنها لغة مثقلة بالاهمية التي نعرف منها ماذا يعني التخطيط لصناعة المستقبل في ظلّ التطوّرات التقنية الهائلة التي نعيشها.
أهمية الدكتور زهران أنه يتحدّثُ لك من قلب المشغل التقني الذي تطبَخُ فيه التقنيات الرقمية الحديثة فضلاً عن أنه يتحدّث إليك من قلب الامبراطورية الاكاديمية الامريكية. كلّ مقالة يكتبها الدكتور زهران إنما هي تذكرة بموضوعة مهمة لاينبغي أن تغيب عن بالنا، وأظنُّ أنّ القارئ الذي له الشغف الكافي وقرأ مقالات زهران القديمة في جريدة الشروق سيتوفّرٌ على معرفة جيدة ورصينة بتفاصيل أساسية عن الكيفية التي تُصنعُ بها التقنيات الرقمية الحديثة.
ثمة أمرٌ آخر في تجربة الدكتور زهران: لو كنت تمتلك القدر الكافي من الاجتهاد والشغف فسيكون بمستطاعك بلوغ أرفع العناوين الاكاديمية والمهنية. لاقوة في الارض ستقف بوجه طموحك وإرادتك.