طالب عبد العزيز
أرى أننا لا نفصحُ عمّا نحبُّ بالقدر الذي نتحدثُ فيه عمّا نكرهه ونضجر منه! وهذا ما آخذه على نفسي أيضاً، فأنا قلما تحدثتُ عن التفاصيل الصغيرة التي أحبّها، وهي كثيرة عندي، وعند غيري كذلك، لكننا، وكما يبدو لي جُبلنا على اهمال ما يؤنس ويسرُّ يومنا، ونذهب بكليتنا الى اللحظات القبيحة التي تعتور حياتنا، وهي قليلة بالقياس الى ما يحيط بنا من مسرات ومباهج.
يتحدث المواطن العراقي وبتذمر لا حدود له، خائضاً في السياسة والدين والطائفة والعشيرة، أكثر مما يتحدث عن أهمية هواء جهاز التبريد المنعش، وطعم سلة الرطب البرحي، ولذة قدح اللبن مثلاً، ولعمري فأنَّ الفرق بين هذه وتلك كبير جداً، ولا فرصة لمقايسة ظالمة كهذه، وإذا جلس الشباب في بيت من بيوت أحدهم، ذات ليلة، يتذاكرون الشعر والموسيقى والفنون، وأقاموا مائدتهم عامرة، كالتي نراها في بوستات فارس الكامل، ووزعوا الكؤوس، وحشروا صحون المقبلات، وضاقت الطاولة بما لذَّ وطابَ وفاحت رائحته.. ذهبوا الى تحليل هذه وتحريم تلك، فتصفحوا الكتبَ الصفراء العطنة، ثم عرّجوا على ذكر سقط متاع الارض، من السياسيين وفقهاء الظلام والامعات!
تعجبني ما تفعله السينما العالمية أحيانا، إذ تضع المرأةُ يدَها على عين طفلها إذا رأت مشهداً مفزعاً، وتأخذه الى غرفته، إذا اختلفت مع زوجها، أو تسابَّ اثنان في الشارع.. ترى لماذا لا نكفَّ، نحن العقلاء، عن سماع ومعاينة مثل هذه؟ ولماذا نضاعف منها حولنا؟ وبين ايدينا عشرات الفرص الجميلة! أعتقد أنَّ جولة بالزورق العشَّاري، وسط شط العرب، مروراً تحت الجسر الايطالي، ووصولا الى منطقة القصور، وقرية حمدان كفيلة بإلغاء مشاهد القبح تلك، أما إذا أجتمعت الاسرة على مائدة السمك(الصبور)بخاصة، بظهيرة من يوم الجمعة وحلَّ عليها ضيفٌ محبوبٌ، أو جاء من سفر بعيد حبيبٌ غائب، وتدافع القوم، وضاقت السمط باللين والرَّطْب واليابس، واختلفت الايدي على هذه وتلك، فوالله أنه لأمر (جللٌ) وعظيم، وقمين بهجران شاشة التلفزيون، ومحو ونسيان عشرات الصور والاسماء القبيحة، من الذين تناوبوا القبح والكراهية عليها.
يذهب العراقيون خارج البلاد، فيشاهدون المناظر الجميلة، ويلتقون الناس الطيبين، من غير ملتهم، ويدخلون الاسواق النظيفة والمولات العظيمة ووو فيعقدون المقارنات!، لا يا أخي، دعك من هذه، أرجوك، إنَّ اسوأ ما تفعله وأنت تستمع هو عقد المقارنات هذه. عش لحظتك، وانسَ، واستمتع بالمكان، وخذ الارض، فقد أتيتها عن بعدٍ، ودفعت من أجلها المال والجهد، وبلغتها بما يسَّر الله لك، وحللت فيها بقصد السفر ومراكمة السعادات، فعلام المقارنات هذه. كلنا يعلم بأنَّ بلادنا حارة، ومدننا خربة، وأنَّ حياتنا سيئة بحكّامنا، وهي نكد في نكد، ليس في الامر جديد، لذا، اصعد الجبل، واركب البحر، وادخل الغابة، وتزحلق على الثلج، وخذ من النساء الجميلات ما أمكنك، و من الخمور ما أسكرك، ومن الارض ما انبسطَ ومهّْد لك، وما تطاله بقدمك، فعلام التذكر السخيف هذا؟
أعترفُ بأنني قليل التبرّم والضجر، وآنسُ بأشياءَ بسيطة، فقد دربتُ نفسي على العيش بحياة غير مكلفة، وقنعت منها بما لان وسهل وانبسط، فأنا أكتفي من الثياب بقميصين وسروالين بسيطين، ومن النظارات والاقلام والكرزات والخمرة بأقلها ثمناً، ولا أجد حرجاً بدفع الاصدقاء عنّي ثمن كوب القهوة- ما انا بضيق ذات اليد جداً- لكنَّ الكريم والشجاع منهم يراني كذلك. أحبُّ اللون السمائي، والشتاء بقطع من الغيم وقليل من الزرقة، وغرامي بصيد السمك في شط العرب، لا يقلُّ عن غرامي بصور وأفلام مونيكا بيلوتشي، وسماع أغنية (مسير الشمس) لنجاة الصغيرة. أما طعم القهوة بالرطب البرحي مع صوت فيروز في الصباح، أو مع قصائد سان جون بيرس عن البحر بخاصة فشيءٌ لا أجدني خارجه، كما أنني أعشق رائحة ماء القلونيا ماركة بومبيا الفرنسية، فهي تعيدني الى الطفولة، وما المكوث في البيت صحبة الكتب والاحفاد ورائحة الطعام التي تاتيني من المطبخ بأقلّ من ذلك متعةً.