اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > أيُّ مواطنٍ فيسبوكي أنت؟ لم نعُدْ مجرّد زبائن في مقاهٍ افتراضية!!

أيُّ مواطنٍ فيسبوكي أنت؟ لم نعُدْ مجرّد زبائن في مقاهٍ افتراضية!!

نشر في: 22 أغسطس, 2023: 11:38 م

لطفية الدليمي

كلُّ أزمة تجتاحُ طرفاً من الاطراف هي فرصة تربّحٍ لغريمه. هذا قانون مألوف في عالم المال والاعمال،

ويبدو من طبيعة الصراعات السائدة في أيامنا هذه في ميادين التواصل الاجتماعي أنّ مارك زوكيربيرغ لم يتأخّر في توظيف هذا القانون بالضدّ من غريمه إيلون ماسك عندما أعلن الاوّل عن إطلاق تطبيقه التواصلي المسمّى ثريدز Threads الذي يتشابه مع تويتر في مواصفات عديدة. إنّه الضد النوعي لتويتر ولكنّه الضدّ الممهور بتوقيع صاحب الامبراطورية الفيسبوكية الواسعة. لاأحد من المليارديريْن يخفي توجّهه الصراعي تجاه الآخر حتى صارت تعليقاتهما أقرب لحرب صِبْيان في حارة من حارات بلادنا: أحدهما يتقمّصُ شخصية كارتونية معروفة ويدعو الآخر لجولة نزال سيصرعه فيها بالقاضية!!

يحقُّ لنا – بل هو واجب علينا – أن نتساءل: مالسرّ المخبوء وراء هذا الصراع المعلن؟ الجواب واحد لاسواه: إنه المال. صارت منصات التواصل الاجتماعي منجماً لدفق هائل من البيانات Data التي صارت بدورها وقوداً لتعزيز سطوة الاستعمار البياناتي Data Colonialism. بياناتنا الشخصية التي نحسبها هباءة لاقيمة لها هي المال الذي يتقاتل من أجله الاباطرة الرقميون؛ لذا إياك أن تقلّل من شأن البيانات سواء كانت لك أو لسواك.

صارت وسائل التواصل الاجتماعي واقع حال مفروضاً علينا بسطوة الشيوع أولاً والحاجة ثانياً. جرّب أن تبتعد بصورة إرادية عن هذه المواقع. ماذا سيحصل؟ ستظلّ تشعر بأنك تفتقد شيئاً قريباً إلى نفسك. هذه حقيقة لايصحّ تجاهلها. أما لو إنقطعت لديك خدمة النت فحينها سنشهد برهاناً عملياً على الطبيعة الادمانية التي طغت علينا وصارت سمة لنا. نحنُ أكبر من مجرّد زبائن لهذه المنصّات التواصلية. صرنا مواطنين (رقميين) فيها. الزبون يقضي وقتاً ثمّ يغادر من غير آثار إدمانية مترتّبة على الخصيصة (الزبائنية)؛ أما (المواطنية) الرقمية فتستبطنُ علاقاتٍ بنيوية وآثاراً نفسية وثقافية مديدة لايمكن نكران تأثيراتها في إعادة تشكيل حيواتنا وأدمغتنا وفي كامل وجودنا الانساني.

تشيع في أوساطنا الثقافية موجة من التعليقات السلبية تجاه منصّات التواصل الاجتماعي. يتناسى المعلّقون أنّ كلّ تقنية جديدة تعمل على إعادة تكييف أمزجتنا وسلوكياتنا؛ فيحصل تعظيمٌ لأنماط محدّدة يقابله تبخيس وإفقارٌ لأنماط أخرى؛ لكن في النهاية الامرُ متروك لك في أن تستحصل أعظم الفوائد الممكنة من كلّ تقنية جديدة. شخصيا، أرى أنّ وسائل التواصل الرقمي أشبه بمحيطات هائلة من المعرفة (أو البيانات إذا شئنا الدقّة) قد تشيع فيها الرثاثة والسذاجة؛ لكن قد تحصل بين حين وآخر على جوهرة مكنونة تنسيك شقاء البحث والقراءة المديدة من غير فائدة محدّدة.

لنتحدّثْ عن الجانب الثقافي الذي تشيعه منصّات التواصل الاجتماعي. الفوز هنا محسومٌ للفيسبوك. تويتر او باسمه الجديد (X (يبدو إجتماعاً مغلقاً لبعض رجال أعمال ممن يقاتلون الوقت ويحسبونه بالثواني. وهو ايضا منصة للشباب الذين يعنيهم التعليق على مستجدات الوقائع السياسية والاجتماعية والثقافية على نحو عابر ومتعجل بنبرة فكاهية أو بنقد غاضب او واخزٍ؛ أمّا الفيسبوك فيبدو واحة استرخاء شاسعة تستطيع فيها أن تنطلق مع ثرثرتك وأفكارك وجموحك ومزاحك وصورك من غير عدّادات تحسب عليك الحرف أو تقيّد طبيعة ماتودُّ نشره ومشاركته مع الآخرين. الفيسبوك أكثر انفتاحاً وتقبلاً لتعدّدية الافكار والامزجة بالمقارنة مع تويتر X)).

الفيسبوك = المقهى الافتراضي. لاأحسبُ أنّ أحداً يتقاطعُ مع هذه المعادلة. صار الفيسبوك أقرب إلى مقهى يعجُّ بضروب شتى من الزائرين. ليس مَنْ يطلبُ شاياً أو قهوة او كابوتشينو. أستُبدِلت المشروبات بقراءة أفكار الآخرين وتفحّص مكنوناتهم أحياناً، وفي أحيان أخرى ليس مطلوباً من مرتاديه أكثر من المرور اللامرئي: أن يرون من غير أن يستشعر الآخرون وقع خطواتهم وآثارهم الرقمية. الفيسبوك وحده يستأثر بهذه الميزة: أن يصنع أحدنا لنفسه مساحة ذات عنوان يشير إلى صفاتنا الذهنية والنفسية. تويتر – مثلاً – تنتفي فيه هذه الميزة؛ فهو ليس أكثر من منصة تخدم أهدافا تسويقية سياسية وفنية عاجلة يكشف فيها بعضُ المؤثرين في صناعة الرأي العام وسياسات العالم - وكذا بعضُ عاشقي التفرّد والهيمنة الفكرية - عن بعض أفكارهم في كلمات محددة. تويتر منصّة برقيات سريعة؛ أما مع فيسبوك فالامر مختلف: ثمة أنماط وتشكّلات فكرية ومجتمعية يمكن أن يلحظها كلّ متابع مدقق بسوسيولوجيا التواصل الاجتماعي.

النمط الفيسبوكي الغالب هو الفيسبوكي المكتفي بنفسه. الاكتفاء بالنفس هنا ليس كناية عن أنانية أو خصلة معيبة؛ إنها توصيف فحسب. أنا وكثرة من الاصدقاء ننتمي لهذا النمط المكتفي بنفسه قد ينشر بعض (المنشورات) التي تعكس مايدور في ذهنه لحظياً تجاوباً مع سؤال الفيسبوك (ماالذي يدور في ذهنك؟)، وقد ينشر أحياناً بعض كتاباته أو مانُشِر له في صحف أو مجلات، وتراه يعلّق على أصحابه الفيسبوكيين ويتجاوب معهم؛ لكنه في نهاية المطاف يبدو كَمَن ينثر البذار في الأرض من غير انتظار لنتائج محسوبة. إنه كمن يلقي كلمته في الجموع ويمضي من غير أن ترتسم في ذهنه خريطة مسبقة لما يجب أن تكون عليه نتائج منشوراته في مساحته الفيسبوكية الخاصة التي تمثل واحة استجمام فكري ومعرفي واجتماعي من غير إطناب حكائي أو ثرثرات نوستالجية. دعونا لاننسى: الثرثرة الفيسبوكية ليست مثلبة طالما بقيت تخدم أغراضاً نفسية محمودة لدى البعض من غير إيذاء الآخرين.

لدينا ثانياً نمط المقهى الفيسبوكي. ليس أمراً غريباً أن نعثر بين فينة وأخرى على حساب فيسبوكي يسعى صاحبه لجعله تنقيبا في خزانة الذكريات فهو لايملك اطلاعا كافيا على مستجدات العالم التقنية والفلسفية والتحولات المتسارعة حولنا، فيعمد إلى استعادة وقائع عتيقة محدّدة. نرى في هذا الحساب قطباً يتحلق حوله بعضٌ من أصدق زملائه وخلصائه القدامى الذين نأت بهم المسافات في جهات عالمنا، العادة أن يستذكر القطب واقعة ما، ثم يسهم الزملاء في الاضافة وتعزيز الواقعة باستذكارات إضافية ربما تكون غابت عن ذاكرة القطب أو أنه لم يعرفها أصلاً. يشترك هؤلاء عادة بكونهم زملاء سابقين في وظيفة واحدة أو رفقاء مهنة ما. يتفاوت المستوى الفكري للموضوعات المطروحة: قد تكون وقائع مجرّدة ليست أكثر من استذكارات عادية تحرّكها نوستالجيا طبيعية إلى أزمان مضت، وقد ترتفع إلى مصاف التعليقات التي تسعى إلى استخلاص قانون عام من جزئيات وقائعية صغيرة.

لدينا ثالثاً نمط النافذة الثقافية العالمية. هناك من يعمل جاهداً على تقديم مايتاح له في إطار الممكن من محتوى إخباري وثقافي وفكري عالمي لأصدقائه الفيسبوكيين. أعرف على سبيل المثال صديقاً فيسبوكياً مقيماً في لندن ينهضُ بأعباء هذا النمط بكلّ نبلٍ. منذ سنوات عديدة يعملُ هذا الصديق على تلخيص محتويات الصحافة البريطانية – يومياً أو أسبوعياً – وتقديم هذا الملخص في إطار فكري جذاب. ثمة ميلٌ لديه إلى المحتوى الطبي لكونه طبيباً؛ لكنّ هذا الميل لايتغوّل على حساب الشغف الفكري العام.

رابعاً، لدينا نمط المنصة الفكرية. شكلٌ رقمي مقابل لما كان يحصلُ في (أغورا) الاغريقية. في العادة يكون القائمون على مثل هذه المنصّات الفيسبوكية أشخاصاً ذوي قدرات فكرية متقدمة، يدفعهم شغف عظيم لاستكشاف مجاهيل معرفية خافية عنهم، ولديهم في الوقت ذاته رغبة جامحة لمراجعة تاريخهم الفلسفي والفكري وعرض نتائج هذه المراجعة على الآخرين من غير خوف أو نكوص أو تردّد. تكاد تلمح في كتاباتهم رسالة مضمرة عنوانها (هكذا كنتُ، وهذا مايحصل لي الآن، وكلّ الممكنات مفتوحة على مستقبل حافل بمتغيرات ليس لي من سبيل لمعرفتها سوى بتحسس بعض آثارها من بعيد). إنهم يسعون لتحريك مكامن التفكّر لديك وعدم المكوث في قعر الثوابت القاتلة.

خامساً، لدينا نمط الفيسبوكي الثرثار، الذي يكون غالباً صانع دعابة. هؤلاء الفيسبوكيون هم وحيدون في الغالب؛ لذا تراه يحكي لك كلّ مايفعل حتى لو كان أمراً عادياً لايتعدّى سلق بيضة أو شراء تفاحة!!، وهم في الغالب يسعون لإستمالتك لتكون صديقاً لهم. لايبتغون شيئاً سوى الصداقة البريئة التي تخفّف شعورهم بالوحدة ووحشة الحياة التي تأخذ بخناقهم.

منصات التواصل الاجتماعي ليست ترويجاً للتفاهة. نحتاجُ أولاً أن نتفق على تعريف إجرائي – بمعنى قابل للقياس والمقارنة -للتفاهة؛ لكن في العموم هناك من يعمد إلى إضافة التفاهة لمنصات التواصل عندما يروّج للسطحي العابر من الامور ويستطيب التعليق على موضوعات تافهة حتى لو كانت هذه التفاهة وجهة نظر شخصية له، وفي المقابل بوسع أيّ منا و متى شاء تحويل صفحتنا إلى منصة للإثراء المعرفي، أو في أقل تقدير للتأمّل والتفكّر والاسترخاء النفسي وتبادل أحاديث عادية من غير إضرار بالآخرين. كل شيء ممكن في منصّات التواصل الاجتماعي تبعاً لحاجاتنا النفسية وأوضاعنا الاجتماعية ومانسعى إليه. يمكننا الاتفاق أننا لو كنا ملتزمين بجميل القول وبعيداً عن المناكفات المسيئة والمنشورات المتربصة و غير المنتجة فستكون مواطنتنا الفيسبوكية صالحة. هذه هي نقطة الشروع، وبعدها يمكنُ أن يكون أحدنا مواطناً فيسبوكياً نزيهاً يسعى لإثراء مواطني المملكة الفيسبوكية علماً ومعرفة وخبرة مثلما يفعل كثرةٌ من رواد المنصة الطيّبين.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

نادٍ كويتي يتعرض لاحتيال كروي في مصر

العثور على 3 جثث لإرهابيين بموقع الضربة الجوية في جبال حمرين

اعتقال أب عنّف ابنته حتى الموت في بغداد

زلزال بقوة 7.4 درجة يضرب تشيلي

حارس إسبانيا يغيب لنهاية 2024

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram