TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > الفرد الرقمي والتغير في القيم الاجتماعية

الفرد الرقمي والتغير في القيم الاجتماعية

نشر في: 26 أغسطس, 2023: 11:44 م

نبيل عبدالفتاح

عندما تم اكتشاف وتصنيع جهاز الراديو الترانزيستور عام 1955 وتصغيره ليحمل في الجيب عام 1957، ثم تطويراته المتعددة مع شركة سونى اليابانية، حدث تغير كبير في الاتصالات على المستوى العالمى، وصفه رئيس الوزراء الكندى ليستر بولز بيرسون 22 أبريل 1963- 20 أبريل 1968- أنه جعل العالم قرية صغيرة،

وتطورت التقنيات الاتصالية إلى التلفاز الترانزيستور، وكلها كانت مداخل لتطور وصل إلى ما اطلق عليه بعضهم القرية الاليكترونية العالمية، ثم إلى ظهور عالم الانترنت والشبكات، والهاتف المحمول حتى تحول العالم إلى ماسبق ان اطلقت عليه الغرفة الكونية، ثم إلى تحوله إلى جهاز نقال هذا التغير التقني اثر في الوعي والقيم والثقافات وكسر بعض السياجات المفروضه في دول الجنوب الشمولية والتسلطية علي العقل والمعلومات والأخبار نسبيا. من الهاتف المحمول، والألواح الرقمية، اصبح العالم عند أطراف الأصابع. ساهمت الثورة الرقمية، ومواقع التواصل الاجتماعى، في تشبيك العالم كله، وأصبحت في تطوراتها فائقة السرعة، تعيد تشكيل الجموع الفعلية والرقمية الغفيرة،وفى ذات الوقت تساعد على إنتاج الفرد في المجتمعات المقموعة سياسيا، والمتخلفة في تطورها التقنى في جنوب العالم. كان الأعلام والصحافة والتلفاز في القرن الماضى، أحد محركات المجتمعات الصناعية الكبرى، وأثر في تطور علاقات الإنتاج، وشروطه والأهم في القيم، والمعايير السلوكية، وفى تطور الثقافة، وتسلعيها كجزء من أنماط الاستهلاك في السلع والخدمات، كما حدث في السينما الأمريكية والأوروبية، وفى صناعة الأكاذيب، والشهرة الذائفة، وأيضا في تسليع نجوم السينما والمسرح، ورجال السياسة.

الثورة الرقمية، وفضاءاتها الحرة والمراقبة أيضا أثرت في تطوير الصحافة، والإعلام، ثم حلت محلها على نحو تدريجى، باستثناء إدخال المواقع الرقمية للصحف الكبرى في أمريكا، وأوروبا، وباتت حياة الأجيال الجديدة رهينة الرقمنة، وأدواتها وخطاباتها، ومواقعها على الشبكة العنكبوتية. لا شك أن هذا التطور التقنى فائق التطور والسرعة يمثل أحد محركات التغير الاجتماعى، وهو ليس عاملًا وحيدًا، وإنما هناك أيضا التطورات التقنية في العلوم، والثقافة، والاقتصاد والسياسة وطبيعة النظام السياسي، لكن الجديد يتمثل في أثر التطور الرقمي، السريع جدا في إحداث التغير الاجتماعى في عالمنا، بما فيها البلدان الواقعة في دائرة التخلف الاقتصادى، والاجتماعى في جنوب العالم، ومنها المنطقة العربية، ومجتمعات اليسر، واليسر معًا، بحيث تجاوز أثرها التربية والتعليم، والعسر الاقتصادى والاجتماعى، في أحداث تغييرات في منظومات القيم الاجتماعية والمعابر السلوكية، بل وفى الوعى الاجتماعى والسياسى إلى حد ما لدي الأجيال الجديدة.

من أبرز هذه التغيرات الاجتماعية، والثقافية، والمعلوماتية، هو تزايد زمن الحياة الرقمية على الحياة الفعلية التي يمارسها الفرد يوميا، وخاصة مع تشكل الفرد الرقمي واللغة الرقمية، والقراءة الومضة، والتعبيرات الشذرية الوجيزة والسريعة، والأهم أثر الحياة الرقمية على المشاعر، والإحاسيس والحواس، وأشكال التعبير الرقمية، بل ونمط العلاقات الاجتماعية الفعلية داخل الأسرة، والصداقة، والمجالات الاجتماعية، التى أدت إلي تغيرات في هذه الحياة الفعلية اليومية، وذلك على النحو التالى:

1. تفكيك العلاقات الاجتماعية داخل نظام الأسرة، والعائلة الممتدة، وتحولها من التفاعل المباشر إلى التفاعل الرقمي، من خلال مواقع التواصل الاجتماعى، أو عبر الهاتف المحمول، وهو امتداد العمليات تذرى الأسرة النووية داخل المدن المريفة، بل أثر أيضا على نمط العلاقات التقليدية في الأرياف، وإلى المزيد من استقلالية الفرد النسبية داخل الأسرة، وخارجها، مع تفاقم الضغوط الاقتصادية، وارتفاع معدلات التضخم واثرها علي الحياة الاجتماعية اليومية.

2.تحول المجاملات الاجتماعية من الواقع الفعلى إلى الواقع الرقمي، في إقامة سرادقات العزاء الرقمية، وفى التهنئة في الأفراح، أو النجاح في الامتحانات العامة، أو الأعياد الدينية، أو الترقى في الوظائف، أو العمل بعد التخرج أو البطالة، أو السفر في أجازة، أو السفر للخارج آيا كانت أسبابه ودوافعه.

لا شك أن هذه التغيرات وتحولها من الإنسانى التفاعلى المباشر إلى الرقمي، تشير إلى نمو الاستقلالية الفردية عبر التفاعل والاتصال الرقمي، وهو ما أثر في الحياة المصرية، والعربية - والكونية، بديلا عن التطورات الصناعية، وعلاقات الإنتاج الرأسمالية، والتمايز بين الوضعى والميتاوضعى في المجال الدينى، وإنتاج الفرد في المجتمعات الصناعية. مثل هذا لم يحدث في مصر، والعالم العربى من قبل إلا قليلاً في مجتمعات ما قبل وما بعد الكونيالية الغربية الوقحة، في ظل أنظمة توتاليتارية، وتسلطية من هنا تعثر ميلاد الفرد المستقل الإرادة والمشيئة، نظراً لسيطرة العلاقات التقليدية، ومورثاتها، وقيمها! جاءت تكنولوجيا الاتصال المتطورة، وأدت إلى تسريع عمليات ميلاد "الفرد الرقمي"، مع استمرارية القيود على حركته الفعلية!

الفرد الرقمي- المراقب من الشركات الرقمية العملاقة، والسلطات السياسية -بات أيضا محاصراً، على الرغم من حريته الواسعة في التعبير والنقد والسخرية السياسية والاجتماعية والدينية والتفسيق والتكفير! على الحياة الرقمية.

العلاقات الرقمية أدت إلى تغيير كبير ومتنام في قيم ومشاعر وسلوك الفرد الرقمي ومعاييره، بل في لغته الرقمية، وتحول هذه المشاعر إلى مشاعر خشبية -إذا ساغ التعبير والوصف- أى لغة بلا مشاعر في الحزن، والفرح، والسخرية. لغة نمطية متكررة، ومتداولة على الواقع الرقمي في العزاء، والمشاركة في الفرح..الخ.

تسيطر على المشاعر الرقمية منشورات نمطية مكررة من غالب الأفراد الرقميين، وحلت بديلا عن المشاركات الاجتماعية في العزاء، والأفراح، والمرض، دونما روابط اجتماعية تفاعلية ومباشرة. بات البديل الرقمي التواصلي هو المسيطر على مشاعر وتفكير الفرد الرقمي.

لا شك أن هذا التغير في العلاقات الاجتماعية يحملُ في أعطافه عديد من المثالب، لكنه بات مسيطراً، والمرجح عدم تغيره، في اللغة الساكتة، المنزوعة المشاعر والأحاسيس التى يتم تداولها على مواقع التغير الاجتماعى، واستبدال الكلمات منزوعة الأحاسيس، وبعض الصور الومضات، لتحل بديلا عن المشاركة الفعلية، بل وأثرت أيضا عليها.

أدت الثورة الرقمية إلى نمط من الاستعراضات الرقمية في مجال الصداقة الرقمية، من خلال تحولها بديلا عن أفعال الصداقة الفعلية من اللقاءات المباشرة، والمشاركات والدعم من الصديق لأصدقائه في الأحزان، والأفراح، والمشكلات الاجتماعية، إلى نمط من الصداقات منزوعة الروح والأحاسيس، في ظل مسافات بين الأصدقاء في الواقع الفعلى، وإلى محض تعبيرات خشبية على الواقع الافتراضى، أو عبر الهاتف المحمول.

ثمة تحولات، وتغيرات اجتماعية واسعة تتم عبر الحياة الرقمية، وتطوراتها فائقة السرعة على حياة الفرد الرقمي والفعلى، ولن تتغير إلا من خلال التطورات الكبرى مع الذكاء الاصطناعي التوليدي، وخاصة مع الأجيال الشابة والأصغر سناً، وذلك على الرغم من تحفظات الأجيال الأكبر سنا، ونصائحها، والحكم الأخلاقية التى تبديها على الواقعين الفعلي والرقمي، ولا السياسات التعليمية والتربوية القديمة، ولا منشورات النوستالجيا لما يطلق عليه "الزمن الجميل"، وغيرها الأوصاف التى غادرتها معانيها وسياقاتها التاريخية. عالمنا يتحول نحو قطيعة مع علاقات الماضى ومحمولاته وقيمه وسلوكياته.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: حدثنا نور زهير!!

وراء القصد.. ولا تيفو.. عن حمودي الحارثي

شعراء الأُسر الدينية.. انتصروا للمرأة

فشل المشروع الطائفي في العراق

العمودالثامن: فاصل ونواصل

العمودالثامن: حين يقول لنا نور زهير "خلوها بيناتنه"!!

 علي حسين إذا افترضا أن لا شيء في السياسة يحدث بالمصادفة، فإنه يفترض أن نوجه تحية كبيرة للذين يقفون وراء كوميديا نور زهير الساخرة ، فبعد أن خرج علينا صاحب سرقة القرن بكامل...
علي حسين

باليت المدى: الرجل الذي جعلني سعيداً

 ستار كاووش كل إبداع يحتاج الى شيء من الجنون، وحين يمتزج هذا الجنون ببعض الخيال فستكون النتيجة مذهلة. كما فعل الفنان جاي برونيه الذي أثبتَ ان الفن الجميل ينبع من روح الانسان، والابداع...
ستار كاووش

صحيفة بريطانية: قائد اركان الجيش الأمريكي يزور دولتين عربيتين لاقامة "تحالف" ضد ايران

متابعة/ المدى كشفت صحيفة تريبيون البريطانية، اليوم السبت، عن وصول قائد اركان الجيش الأمريكي الجرنال سي كي براون بزيارة غير معلنة الى الأردن لبحث إقامة "تحالف إقليمي" لحماية إسرائيل.  وذكرت الصحيفة، ان القائد الأمريكي...

كلاكيت: ألان ديلون منحه الطليان شهرته وأهملته هوليوود

 علاء المفرجي في منتصف السبعينيات شاهدت فيلمه (رجلان في مأزق) وهو الاسم التجاري له، في سينما النجوم في بغداد، وكان من إخراج خوسيه جيوفاني، ولا يمكن لي أن انسى المشهد الذي يوقظه فيه فجرا...
علاء المفرجي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram