حيدر المحسن
كان الوقت مساء عماريّا (نسبة إلى مدينة العمارة) شتويّا قارسا، وكنتُ أزور مع أمّي وإخوتي بيت عمّتي في أيّام عاشوراء، حيث يطلّ المنزل الواسع بشُرُفاته العديدة وسطحه العالي على مواكب العزاء التي تسير في الشارع، مع أصوات المُقرئين لمراثي العزاء تتردّد عبر مكبّرات الصوت، بالإضافة إلى ضجّة الطّبول والصّنوج، تهوي الزناجيل (السلاسل) الحديديّة وفق إيقاعها على الظّهور، وكذلك أصوات الأكفّ وهي ترتفع وتهبط، تجلد الصّدور الحمراء العارية.
كانت المواكب تجري تِباعا في نهر الشّارع منذ أوّل المساء حتى موهن اللّيل، وكان إخوتي يدعونني إلى الفرجة لكنّ قوّة غريبة كانت ترغمني على البقاء مع بنت عمّتي "كتبه"، التي ولدتْ مشوّهة الخِلقة فأطلقوا عليها هذا الاسم؛ شفة مشرومة وأنفٌ مفلوع ولهاة انشقّت إلى درجة أن تجويف الخيشوم والمريء يبينان من الخارج، فإذا تكلّمت لا يصدر عنها غير صفير حلقيّ مبهم، كأنّ البارئ خلق معها قاموسا خاصّا لا يفهم حروفَه أحد. كما أنها لم تكن تستطيع الظّهور إلى الناس، فهي تتوارى خلف الباب، عدا نصف وجه يبين ويختفي من وراء عباءة سوداء. ثم يعلو فجأة نفير الأبواق منغمّا نداءات "حيدر... حيدر... حيدر" مع مشهد حزّ الرؤوس الحليقة بالقامات والسيوف ورائحة الدماء المتفجّرة، لكنّ الجوّ صار فوق طاقة احتمال الفتاة ذات البشرة الثّلجيّة "كِتْبَه"، فانسحبت إلى الدّاخل، واختارت لنا مقعدين عند فسقيّة تتوسّط حوش البيت، حيث تقف ثلاث أشجار رمّان عرّاها الشّتاء من أوراقها. كنت أبلغ السّادسة من عمري، وفي تلك الساعة مدّت الفتاة يدها إلى أصابع يدي وأخذت تتحسّسها، ثم أمسكت بجماع كفّي وشعرتُ برعشة غريبة تسري في كلّ جسدي، وخرج من فمها بدل الصّفير مواء لذيذ، وتلوّن فمها بألوان شفاه القطط. قامتْ بعد ذلك إلى المطبخ، وتبعتُها وأخذت تُعدّ سندويتش الجبن والرّيحان مع عصير الزّبيب. ليس هناك أكثر شرحا للرّوح من مشهد فتاة تتناول الطّعام بشهيّة، وإن كانت مشرومة الفم واللّهاة والأنف. كان لها وجهٌ مجلوٌّ أبيضُ كمرآة، وشعرٌ بلون خيوط الذّهب، وعينان زرقاوان لا يمكن لمن يراهما أن ينساهما. بعد العشاء شاءت فتاتي أن تُقيم عزاءً للإمام الحسين بمفردها. أخذت تنوح بصوت يخلع القلب وتنشج. في كلّ ملامحها تشبه تمثالا من الرّخام تشوّه بفعل ضربة إزميل على الأنف والفم. سالت الدّموع من خدّي التمثال قطرةً قطرةً على الأرض.
- توقّفي عن البكاء، أرجوك!
قلتُ لها متوسّلا، لأن منظر امرأة باكية يوجع القلب، حتى بالنسبة إلى طفل لا يعرف معنى الحزن أو التّعاسة أو الكرب. وعندما بدأت تلطم برفق على صدرها كان الدّور هذه المرّة لي أن أمسك بيدها، وتملّكتني رغبة جامحة في التسرية عن نفسها النّقيّة الشابّة. كنتُ أحاول التكلّم بلغتها المؤلّفة من نصف من ألسنة الطّيور ونصف من لغة القطط. هل يمكن ترجمة الأصوات التي أطلقتها من أنفي وفمي إلى لغة البشر؟ لكنّ الفتاة فهمتْ عنّي واتّجهت معي إلى سطح البيت العالي. كان القمر مكتملا ويعبرُ براحا موحشا أعطاه صورة إحدى خيام "الهاشميّات"، في سماء خفيضة اكفهرّت وارتدَت ثياب الحداد على الإمام الشّهيد. كفّت فتاتي عن البكاء، وارتسمت على فمها ابتسامة أسرتني وشعرتُ عندها بطعم الرفاه البيتيّ وبفيض السّلام العميق، كأني أجرّبهما أوّل مرّة. كانت لنا إطلالة على الشّارع الذي يضيق وتسودّ الآفاق فيه، أو تصير حمراء أو بيضاء أو خضراء، بلون الرّايات المرفوعة هائلة العدد، يتزاحم لرفعها شبّان يرتدون الأسود. في تلك اللحظة عصفت بنا ريحٌ ثلجيّة، وضجّ الجميع بالصّراخ والنّحيب لأن الإمام كان يُذبح بطريقة تمثيليّة وسط الشّارع، وكنتُ أرى المشهد بعيدا كأنما في حلم. انفجرت "كِتبه" بالعويل وأخذت تلطم على وجهها، وشعرتُ بنوع من الرّجفة ورأيتُها في الظّلمة الباردة مثل طيف ورديّ لإحدى النساء الهاشميّات اللاتي حظرنَ واقعة الطفّ وشهدن المذبحة، كأنّه حُكمَ عليها بالعذاب الطّويل الأمد الذي لا ينتهي، فهي تنتحب وترثي شهداء كربلاء منذ ذلك الزّمان إلى الآن.
جميع التعليقات 2
مهدي يعگوب
جميل ،قدرة مميزة على السرد وتسلسل منطقي للحدث ونهاية مرسومة بعناية فائقة ،اتمنى لك مزيدًا من الابداع.دمت بخير
جعفر صادق رشيد
ارجو ان تقول لنا ماذا خبأت الايام لكتبه؟ هل تزوجت؟ هل اجريت لها عملية جراحية؟...