مسلم غالب

في مجال علم الاجتماع، الفاعلية والبنية هما مفهومان أساسيان يشكلان فهمنا للسلوك البشري والعالم الاجتماعي الذي نعيش فيه. يقدم هذان المفهومان نظرة قيّمة على كيفية تنقل الأفراد في حياتهم، في الوقت نفسه تحت تأثير قوى اجتماعية أكبر.

تشير الفاعلية إلى قدرة الأفراد على التصرف واتخاذ القرارات، بينما تشير البنية إلى أنماط العلاقات الاجتماعية والمؤسسات التي تؤثر على الأفراد. التعرف على التفاعل بين الفاعلية والبنية، أمر بالغ الأهمية لفهم تعقيدات المجتمع. دعنا نستكشف هذه المفاهيم وأهميتها في علم الاجتماع، و نتعرف على الأسئلة المطروحة في مجال هذه الإشكالية:

كيف يعرّف علماء الاجتماع ويفهمون مفهوم الفاعلية والبنية في سياق التفاعلات الاجتماعية؟ كيف تتفاعل الفاعلية والبنية وكيف تؤثر كل منهما على الأخرى في تشكيل السلوك الفردي والجماعي في المجتمع؟ أي دور تلعب الفاعلية في تمكين الأفراد من التصرف بشكل مستقل واتخاذ الاختيارات ضمن البنى الاجتماعية؟ كيف تؤثر البنى الاجتماعية، مثل الأنظمة التعليمية أو المؤسسات القانونية، على الفاعلية الفردية وتشكل الفرص والقيود بالنسبة لها؟ كيف يؤثر التداخل بين الفاعلية والبنية على ديناميات الأسرة والعلاقات الأسرية؟ بأي طرق تحدد الفاعلية والبنية الاختلافات الاجتماعية، مثل تلك المتعلقة بالعرق والطبقة والجندر؟ كيف تؤثر القيم والعادات الاجتماعية على الفاعلية الفردية والاختيارات التي يقوم بها الأفراد في سياقات اجتماعية مختلفة؟ كيف يختلف التوازن بين الفاعلية والبنية في الإعدادات التنظيمية الرسمية، مثل أماكن العمل أو البيروقراطيات؟ كيف تؤثر الفاعلية والبنية في التغيير الاجتماعي والنشاط النضالي والحركات الجماعية في المجتمع؟

اختلفت المواقف بين المدارس النظرية في علم الإجتماع منذ نشأته في القرن التاسع عشر الميلادي، بالنسبة لإشكالية الفاعلية و البنية. بدا علم الإجتماع بنيوياً بسبب نظرته الشمولية و لتأثره من الفلسفة التي تركز بشكل عام على المفاهيم الكلية. فيمكن للمتتبع أن يرى البنيوية في آراء: أغست كنت، دوركايم، و ماركس و هم من الآباء المؤسسين لعلم الاجتماع. أغست كنت كان يبحث عن قوانين شمولية للمجتمع كما القوانين العلمية للطبيعة. و ماركس ركز بشكل واضح على البنى التحتية التي تحدد كل شيء في المجتمع: الفكر، والسياسة، والأخلاق، والثقافة، والعلم..الخ. وأما دوركايم حاول تحديد الظواهر الاجتماعية عن الظواهر النفسية، و كان يعمل جاهداً على إثبات عدم كفاءة علم النفس في تفسير الواقع الإجتماعي. كل هذه المحاولات الفكرية أدت إلى استفحال النظرة البنيوية في علم الإجتماع، ولكن اختلف الحال عندما انتقلت السوسيولوجيا من فرنسا و ألمانيا إلى الولايات المتحدة، حيث ركز جورج هربرت ميد - و هو من مؤسسي علم الاجتماع هناك – على الذات و التفاعلات الفردية في صنع العلاقات الاجتماعية. تم التركيز في المايكرو سوسيولوجي، على دور الفاعلية في بناء المؤسسات الإجتماعية و السياسية و الإقتصادية. وبالمقابل، ركزت الماكرو سوسيولوجي على البنية الإجتماعية.

أدى الصراع الفكري بين المدرستين إلى تشكيل مدارس توفيقية حديثة، تؤمن بالترابط أكثر من التباعد. تمثل آراء علماء إجتماع جدد مثل: بيير بورديو و أنتونى غيدنز، هذه النظرة الترابطية بين الفاعلية الفردية و البنى الإجتماعية.

تعبر البنية في الواقع عن الصياغة الإجتماعية والثقافية للعلاقات بين الناس في مجتمعات مختلفة فيما تتعلق الفاعلية بالتفاعلات الفردية. وبالمثل، فإن الاعتماد الكامل على أحدهما لا يعبر عن القيمة الحقيقية لكل منهما، ولكن هي العلاقات بينهما وتواليهما التي تدفعنا إلى فهم السلوك الإجتماعي. وتعتبر الفاعلية والبنية مرتبطتين ترابطا مهما حيث تؤثر الفاعلية على البنية وبالعكس، يمكن للفرد أن يؤثر على البنية ويشكلها بطريقة أو بأخرى، وفي المقابل يمكن أيضاً أن يتأثر الفرد بالبنية. تشمل البنية الإطارات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية الأوسع التي تشكل سلوكياتنا الاجتماعية. فهى توفر الشروط والحدود التي يتعامل بها الأفراد ويتخذون قراراتهم. تمثل البنية الاجتماعي الأنماط المنظمة للعلاقات الاجتماعية والأدوار والمؤسسات التي توجه وتحدد سلوك الإنسان.

التفاعل بين الفاعلية والبنية هى عملية ديناميكية. يتنقل الأفراد ويفسرون البنى الاجتماعية، ويستخدمون فاعليتهم لاتخاذ القرارات والتصرف. في الوقت نفسه، يمكن أن تؤثر الخيارات التي يتخذها الأفراد في تشكيل أو تحدي البنى الاجتماعية القائمة. يؤثر هذا التفاعل المستمر بين الفاعلية والبنى في النسيج الاجتماعي، مشكلاً القيم والقواعد والمؤسسات مع مرور الوقت. العلاقة بين الفاعلية والبنية ليست علاقة معارضة بل تكاملية. يمارس الأفراد فاعليتهم داخل البنى الاجتماعية، في حين يتم إنشاء وإعادة انتاج البنى من خلال فاعلية جماعية. توفر البنية، السياق والموارد والفرص للأفراد لتجسيد فاعليتهم، بينما تساهم الفاعلية، في صيانة وتكييف أو تحويل البنى الإجتماعية.

وفي النهاية، فإن فهم العلاقة بين الفاعلية والبنية يعتبر جوهرياً في علم الاجتماع، حيث يعتبر التعاون بين الفرد والبنية هو المسؤول عن النمو داخل المجتمع وتطوره وتغييره، وفي نفس الوقت، تتطلب هذه العلاقة الخلاقة معالجة المشاكل وإيجاد حلول مستدامة.