لطفية الدليمي
الطفولة هي التي تشكّلُ كينوناتنا اللاحقة. الطفولة هي التي ستحدّدُ لاحقاً شكل الكائن البشري الذي ستكونُهُ بكلّ ترسيماته الذهنية والنفسية والعملية. قوانين الوراثة لها أثرها؛ لكنّ شكل الخبرات التي يتحصلها المرء في طفولته هي التي ستصنع صورته المستقبلية.
الوراثة مثل منجم خام يحوي معادن ثمينة، والقيّمُ على هذا المنجم هو وحده من يتعامل مع نفائس معادنه: إنْ شاء تركها مدفونة حيث هي، وإنْ شاء إستثمرها في صناعات كثيرة قد تكون استراتيجية خالقة للثروة والسطوة العالمية.
لو قرأنا في سِيَرِ أعاظم العلماء ومُطوّري التقنيات لعرفنا أنّهم تشاركوا خصيصة متفرّدة: معرفتهم بخصب المواهب التي يحوزون أولاً، ومثابرتهم في تطوير هذه المواهب بجدية وصرامة وعبر وسائل غير تقليدية في الغالب. لم يركنوا إلى تعليم مدرسي تقليدي بطيئ الايقاع، ولم يتركوا مفاعيل الزمن تتلاعب بهم كيفما شاءت. كانوا ذوي حزم وإرادة صلبة وحسّاسية (تكاد تكون مَرَضيَّة) تجاه بعثرة الزمن أو تبديده في السخف أو في العبثية غير المنتجة أو في أباطيل آيديولوجية.
الطفولة – باختصار – هي نقطة الشروع التي منها تبدأ معالم تضاريس مستقبل الفرد. هذه حقيقة تمتلك مشروعيتها الكاملة في التسويغ والتسبيب. الدماغ البشري ينمو بطريقة تكاد تكون (إنفجارية) في بواكير النشأة الاولى، والطفل يبدأ في إكتشاف مكامن الدهشة في الكون وهو لم يتلوّث بعدُ في مستنقعات الآيديولوجيا الآسنة أو مايفرضه عليه الواقع اليومي من مواضعات بليدة. الموسيقى مثلاً هي صناعة الطفولة. مَنْ تجاوز الست سنوات الاولى في طفولته ولم يتعلّم البيانو أو الكمان أو التشيلو فلينسَ أمره لاحقاً. لن يستطيع فعل شيء فيما بعدُ. قد يكون موسيقياً عادياً في المستقبل؛ لكنّ الاجادة والصنعة العبقرية لن تكونا من حصّته أبداً. هذا قانون مؤيّدٌ بشواهد كثيرة. يصلح مثال الموسيقى بدرجات قليلة أو كثيرة مع كثير من الحقول المعرفية الاخرى؛ لكنْ يبقى مثال الموسيقى متفرّداً لكونه يشترط تلازماً بين القدرة الذهنية والحركية أو مايسمى بالتناغم العصبي – العضلي. هذا التناغم يقلّ وقد يتلاشى مع الزمن.
تحضرني دوماً أسئلة من نوع: ماذا لو أنّ طفلاً له قدرات شكسبير أو آينشتاين أو موزارت عاش في العراق الحالي وعانى عسفاً وظلماً لأي سبب من الاسباب؟ كيف لاينفجر ويدمّرُ نفسه أو يتحوّلُ إلى طاقة كراهية عمياء تجاه الآخرين؟ هذا سؤال جوهري وليس لعبة ذهنية نتسلّى بها.
عندما حصل الباكستاني عبد السلام على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1979 (بمشاركة إثنين آخرين معه) أشار في كلمته بهذه المناسبة إلى راهبة كانت تعملُ في مدرسة خاصة. حصل ذات يوم أن زارت هذه الراهبة المدرسة الابتدائية التي كان يداوم فيها عبد السلام بمنطقة لاهور الفقيرة، وسرعان ماأعجبت بقدرات عبد السلام فأشارت إليه أن يصطحبها بعد نهاية الدوام المدرسي إلى عائلته، وهذا ماحصل. أخبرت الراهبة العائلة أنّ إبنهم الصغير يمتلك نبوغاً فائقاً في الرياضيات والعلوم ويحتاج تعليماً أرقى ممّا يحصل عليه في الوقت الحاضر؛ فتحجّج الاهل بأنهم فقراء غير قادرين على الايفاء بمصروفات إضافية، ثمّ أخبروها متسائلين: ماذا يفعلون بتعليم أرقى لطفلهم وكلّ الذي يطمحون إليه أن يحوز وظيفة بسيطة في سلك الخدمة المدنية تأتيه ببعض المال الذي يكفي أوده. لم تقبل الراهبة بهذا الجواب وقرّرت أن تأخذ زمام الامر بيدها؛ فحصلت لعبد السلام على منحة خاصة للدوام في مدرسة خاصة في لاهور، ثمّ عندما أثبت ألمعيته حصلت له على منحة كاملة في إحدى أرقى الجامعات البريطانية. ماذا لو أنّ عبد السلام تُرِك لحاله؟ كان سيقضي حياته موظفاً بسيطاً، والاهمّ من هذا كانت موهبته ستذوي مع الزمن. هذا هو حال المواهب البشرية: هي ليست أعطيات باقية للأبد، ومالم نتكفلها بالرعاية والتطوير والمثابرة ستنتهي في هاوية النسيان.
لم ينسَ عبد السلام بلده (الباكستان) أبداً رغم أنها لم تكن السبب في شهرته العالمية اللاحقة. لم يكره عبد السلام بلده يوماً ما أبداً؛ بل على العكس ساهم في تطوير قدراته التعليمية والاكاديمية ومشروعه النووي، وعمل على خلق فرص عديدة لابتعاث طلبة باكستانيين متفوقين علمياً إلى أرقى الجامعات الغربية. لم يقابل عبد السلام الاساءة بالاحسان رغم أنّ بلده قابله بالاساءة على أسس عقائدية دينية دفعته دفعاً - وهو الاقرب إلى عالم المتصوّفة- لمغادرة باكستان والعيش في الغرب.
كلّما تذكّرتُ مثال عبد السلام وكلمته في حفل نوبل حضر بذهني على الفور مثال مناقضٌ: إيهاب حسن، المنظّر الثقافي وأحد آباء مابعد الحداثة. سيرته الذاتية التي ترجمها الراحل سيد إمام: (الخروج من مصر: مشاهد ومجادلات من سيرة ذاتية) تقطر أسى ومرارة وتكشف عن روح يائسة ومسكونة بالخذلان من كلّ ماهو مصري. حتى العنوان إختاره حسن بدقّة ليكون ذا حمولة دينية تنبئ عن ثقل الواقع وفداحة الخطب الذي تعانيه الروح حتى كأنّ صوتاً ميتافيزيقياً ربّانياً دعاها لمغادرة أرض مصر وعدم الرجوع إليها أبداً.
منذ البداية يكشف حسن في سيرته الذاتية أنّه عندما وضع قدميه على الباخرة التي أقلّته من الاسكندرية في طريقه إلى نيويورك عام 1946 فقد إعتزم ألّا يعود ثانية إلى مصر، وهو الامر الذي تحقّق بالفعل. تصوّروا: منذ عام 1946 وحتى وفاته عام 2015 ظلّ حسن وفياً لعهده في عدم زيارة مصر وألّا يراها أبداً. أتساءل دوماً: لماذا هذا القسم المغلّظ من جانب حسن في عدم الرجوع لمصر؟ ألم يتحسّب لمفاعيل التوق النوستالجي من أن تغلبه وتجعله يكسر مااعتزم الاخلاص له في ساعة غضب ربما؟
لم يكن حسن فقير الحال مثل صاحبنا الباكستاني عبد السلام. كان حسن سليل عائلة ثرية ذات حظوة في البلاط المصري. ماالذي حصل إذن؟ أظنُّ أنّ علينا الابتعاد عن إجابات سهلة جاهزة على شاكلة: الخيانة، التنكّر لفضائل الوطن، الروح المتغطرسة في مقابل روح إبن البلد (الطيّب)،،، إلخ.
عندما أفكّرُ في مثل هذه الحالات غالباً مايقودني خيالي إلى أطياف الطفولة البعيدة؛ فهناك تتشكّلُ بدايات الوعي ومآلات المستقبل. نحن لانعرف كلّ التفاصيل. ربما يكون حسن قد عانى أمراً في طفولته ترك بصمة لاتمحى في ذاكرته، وتطوّرت هذه البصمة لتصير إصابة نفسية Psychological Trauma ينكسر معها القلب ويُقهّرُ بها العقل وتلتوي فيها الروح.
الخلاص الفردي أهمّ من شعارات خائبة، والطفولة إستحقاقات ومكابدات ومسؤولية أكبر ممّا قد نظن. كلّما جئنا بطفل إلى هذا العالم فنحن بين إحتمالين لاثالث لهما: قد نضيف ثراءاً ومعرفة وإبداعاً للعالم، أو قد نضيف للعالم روحاً معذّبة قلقة وعبئاً لم يكن الفرد ليختاره لو كان له الخيار.
الطفل أثمن بكثير من لحظة متعة قصيرة يسعى وراءها أنانيون جهلاء وقساة لن يرفّ لهم جفن حتى لو قضى طفلهم حياته في محرقة المكابدة الذهنية أو النفسية التي لايعرفون شيئاً عنها.