اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > مُخْتَارَات : اوُسْكَار نِيمَايْرْ

مُخْتَارَات : اوُسْكَار نِيمَايْرْ

نشر في: 3 سبتمبر, 2023: 10:14 م

د. خالد السلطاني

معمار وأكاديمي

عندما دعا مجلس الاعمار العراقي في الخمسينيات، في حدث مهني غير مسبوق عالمياً، مجموعة من المعماريين ذوي الشهرة الدولية الواسعة للمساهمة في انجاز مشاريع عراقية ضخمة،

هي التى امست نماذجها التصميمية المنفذة (وغير المنفذة.. ايضاً!) من الاعمال الرائدة والمهمة في عمارة الحداثة، والتى نالت اهتماماً عالياً وملحوظاً لجهة الاسماء المشهورة العالمية التى وقفت وراء تلك المشاريع ولناحية لغتها التصميمية المدهشة التى اضافت الكثير الى مشهد عمارة الحداثة وخطابها.

ويعرف كثر من المهتمين في الشأن المعماري بان خيرة المعماريين العالميين المؤثرين وقتذاك تمت دعوتهم الى بغداد لذلك الغرض، والذين كان من بينهم "فرانك لويد رايت" المعمار الامريكي المعروف، و"لو كوربوزيه" الفرنسي احد اشهر معماريي الحداثة، و"فالتر غروبيوس" الالماني / الامريكي مؤسس الباوهوس الشهير، و"الفار آلتو" الفنلندي، و "جو بونتي" الايطالي، و "وليم دودوك" الهولندي، و"جون بريان كوبر" الانكليزي و"كونستانتينوس دوكسيادس" اليوناني وغيرهم من المعماريين الرواد المعروفين. وكان من ضمن المدعويين ايضا: "اوُسْكَار نِيمَايْرْ" (1907 – 2012) المعمار البرازيلي الشهير (موضوع حلقتنا لهذة الزاوية). وقد استجاب جميع المعماريين المدعويين بترحاب واضح لدعوة بغداد، عدا "اوُسْكَار نِيمَايْرْ" ذاته، الذي علل موقفه الرافض للدعوة بباعث امكانية "ترويج" مساهمته في صالح حكومة معادية لشعبها. وكان موقفه ذاك صادراً من مبدئية معتقده اليساري (الشيوعي تحديدا) المطالب بازالة الظلم والاستعمار والساعي الى حرية الشعوب والحياة الكريمة للناس اجمعين.

شخصياً، اقف احتراماً وباجلال لهذا الموقف الشجاع غير المُوَارِب وغير المخاتل الذي وقفه "اوُسْكَار نِيمَايْرْ" وقتها. ذلك الموقف الشريف، المتعاضد مع حرية الشعب العراقي ونضاله الوطني. ورغم أن موقفه ذاك حال دون الحصول على مكاسب نفعية وشخصية له وجرده التربح من امتيازات ماليه ضخمة، الا ان ما اقدم عليه المعمار البرازيلي الشهم من فعل، وأن عًدّ نادراً، ألا انه يبقى يمثل درسا مهما ونافعاً في معنى التعاضد الانساني ما بين الشعوب والمؤازرة مع قضاياها الوطنية بصرف النظر عن الاختلافات الاثنية والجغرافية. ولئن "حرمت" بغداد، (والمشهد الاقليمي العربي عموماً) جراء هذا الموقف آنذاك، من الحصول على نموذج تصميمي حداثي بارع، فان المعمار "عوض" ذلك، لاحقاً، في أمثلة مبنية على الارض العربية، وهي: "معرض لبنان الدولي" (لاحقاُ: معرض رشيد كرامي الدولي) (1962- 1974) في طرابلس/ لبنان؛ والمشروع الثاني "مجمع جامعة القسنطينة" (1969 -1972)، قسنطينة / الجزائر، و"جامعة هواري بومدين للعلوم والتكنولوجيا" (1974) الجزائر.

ولد "اوسكار ريبيرو دي الميدا نيماير سوارس فيليو" Oscar R. A. Niemeyer S. Filho في ريو دي جانيرو/ البرازيل في 15 كانون الاول 1907، وتوفي عندما توقف قلبه وهو بعمر <105> اعوام، في 5 كانون الاول 2012. درس العمارة في مدرسة الفنون وتخرج منها عام 1934. وعندما كان طالباً انضم الى مكتب المعمار البرازيلي المعروف والاستاذ في مدرسة الفنون "لوسيو كوستا"، وشارك في تصميم جناح البرازيل في معرض نيويورك الدولي سنة 1939. وقد اظهرت عمارة هذا المبنى الموقت المزايا الفنية التى اجترحتها "عمارة الحداثة" وخصوصا ما يعرف بـ "الفضاء المنساب". وفي ذلك الوقت تقريبا انضم نيماير الى مجموعة من المصميمين الذين كان يقودهم "كوستا" لتصميم مبنى وزارة المعارف والصحة في ريو دي جانيرو (1937 -1943)؛ المبنى الاشهر والذي اشترك المعمار "لو كوربوزيه" في تصميمه بصفة استشاري. (.. وبالمناسبة، فان واجهة المبنى اياه بشكلها المعبر، الهمت الكثير من المعماريين في بقاع مختلفة من العالم بضمنهم معمار مبنى مصرف الرافدين "المرحلة الثانية" (1953 -1955) في شارع الرشيد ببغداد والمصمم من قبل كابتن "فيليب هيرست" Ph. Hirst). ولقد استطاع نيماير ان يوظف مشاركته في التصميم بالقرب من احد اساطين العمارة العالمية لجهة التعرف بعمق عن اراء ومفاهيم هذا المعمار المتميز، والتى في النتيجة شكلّت الكثير من ذائقة المعمار وحددت نوعية مقاربته التصميمية وطبعتها بطابع خاص ظل المعمار البرازيلي وفيا لها طيلة عمله المهني الذي امتد لعقود كثيرة. على ان ابداع نيماير المعماري تجلى بصورة واضحة عندما شارك مع كوستا في تخطيط العاصمة البرازيلية الجديدة "برازيليا" (1956) وقد اوكل له لاحقاً تصميم العديد من ابنيتها المهمة بضمنها القصر الجمهوري ومبنى البرلمان ودار الحكومة فضلا على تصميم الكاثدرائية الرئيسية فيها والعديد من الابنية التى عُدّت فخر العمارة البرازيلية وفخر عمارة الحداثة ككل! وعلى امتداد مساره المهني الذي استمر 78 سنة صمم ونفذ "اوُسْكَار نِيمَايْرْ" ما يقرب من 600 مشروع.

في عام 1963 يمنح جائزة لينين للسلام، كما منح في عام 1988 جائزة "بريتزكير" المرموقة. وعندما استولى العسكر على الحكم بالبرازيل سنة 1964، اضطر "اوُسْكَار نِيمَايْرْ" للعيش في الغربة واقام في فرنسا لمدة عشرين سنة (1964 -1985). وخلال تلك الفترة قام بتصميم العديد من المباني في غانا، ولبنان، وايطاليا، والجزائر، والبرتغال وطبعا في فرنسا حيث صمم هناك المقر الرئيسي للحزب الشيوعي الفرنسي (1965) وغيره من المباني.

لم يكن "اوُسْكَار نِيمَايْرْ" مولعاً كثيرا في التنظير المعماري، كما انه لم يسعَ وراء ذلك. ومع هذا فان اقواله الشحيحة والمقتضبة كانت دوما مثار اهتمام كثر من المتابعين، بباعث ان وراءها يقف احد اعمدة العمارة العالمية. لقد كانت العمارة (.. وبقيت!) دوما بالنسبة الى نيماير، تمثل قيمة فنية بل انها "الفن" الحقيقي. وتشهد اقواله التى جمعتها من مصادر مختلفة (وبترجمة مني من الروسية) الى تأكيد تلك القيم والرؤى التى يؤمن بها هذا المعمار المتنور والطليعي.

- " كنت دوماً، انظر الى العمارة بكونها جزءًا لا يتجزأ من ادوات مهمة مرتبطة بالحياة وبسعادة الناس!" (مجلة Modulo، 1958، العدد 9، ص. 3).

- " انا اعتقد بان الناتج المعماري، يمكن له ان يكون منتجاً فنياً، فقط عندما يحتوي عملاً خلاقاً ولو بنسب متواضعة؛ اي، بعبارة اخرى، يظهر مساهمة ذاتية من قبل المعمار. بدون ذلك فان العمارة تغدو مكررة تعيد ما تم انجازه مسبقاً من اشكال وحلول وتقتفي اثر المدارس التى امست كلاسيكية، التى عفا عليها الزمن وشرب." "... كما اني اقف وراء إستخدام الاشكال الفنية بحرية تامة تقريباً، في مواجهة الخضوع الذليل لاشتراطات التقنية والمتطلبات الوظيفية، فانا، مرة آخرى، مع حرية المخيلة التى تجترح لنا اشكال جديدة وممتعة، في المقام الاول، وهي قادرة على اثارة دهشتنا وافتنانا لجهة اصالتها وابداعها لمناخات مترعة بالشاعرية والالهام والاحلام. واضح جدا بان تلك الحرية التى اعنيها تتسم على درجة كبيرة من الحصافة والمنطق." (من كتاب صادر في ريو دي جانيرو سنة 1961).

- " يتعين ان تكون العمارة متضمنة "الوظيفية" وفي ذات الوقت ان تكون معبرة عن الجمال والفكر المبدع. ولهذا فانا لا اعترف بوجود اشتراطات ما او محددات والتى تقود العمارة الى طريق مسدود او في احسن الاحوال تتطلع الى تقليد نجاحات الاعمال السابقة! ففي رأيي بان كل منتج فني، وبالتالي كل منتج معماري، يتعين ان يظهر، ولو جزئياً، نشاطاً لبصمة ابداعية!" (مقتطفات من مقالة للمعمار في جريدة بولونية لسنة 1960).

- ".. بالطبع انا لا ادعو الاخذ بشعار الفلسفة المثالية "الفن للفن"، محتواه الرجعي الذي ارفضه بصورة واعية" (مقتطفات من مقال في جريدة برتغالية Modulo, 1956,N. 4.).

- ".. ينبغي ان يكون شكل المبنى ذا قوة حضورية مؤثرة على احاسيس زوراه ومستخدميه، مثيراً لديهم الاحساس بالدهشة والبهجة معاً، وتجعلهم ينسون، ولو للحظة، الامور الشاقة والمشاكل الصعبة التى لطالما قست الحياة واغلظت على الكثير منهم." (مقتطفات من ذات الكتاب الصادر سمة 1961).

- ".. لقد تجاوزت العمارة البرازيلية مرحلة "الوظيفية الارثوذكسية"، وهي الآن تتقصى وتفتش عن بلاغة فنية، منغمسة، وبمرونة شديدة، لتوظيف الاساليب الانشائية المعاصرة، ممزوجة بهيام غريزي لشغف استخدام المنحنيات، وصولاً لبلوغ لغة معمارية جديدة ومدهشة!". (مقتطفات لمقدمة كتبها نيماير لكتاب صادر في نيويورك سنة 1950 تناول اعمال المعمار البرازيلي)

وعندما بلغ من العمر مائة عام سنة 2007 احتفات الاوساط الثقافية البرتغالة وغيرها بهذة المناسبة وتم انتاج افلام تسجيلية عديدة توثق مسيرة هذا المعمار الاسطوري خلال قرن من الزمان. وتحدث في احد تلك الافلام ناقد معماري برتغالي معروف مذكراً بان الجميع".. يعلم كراهية "اوُسْكَار نِيمَايْرْ"للرأسمالية والى... الزوايا القائمة! فهو ضد تلك الزوايا، التى في رأيه تفسد وتخرب الاحياز. لقد ابتكر عمارة كالضوء، كالسحاب: حرة وحساسة، تشبه الى حد كبير جبال ريو دي جانيرو. لكن هذه <الجبال> تبدو كأجساد النساء المستلقيات!" ثم يضيف ".. حتى هؤلاء الذين لا يتفقون مع الافكار الرديكالية التى يعتنقها، يجب أن ينحوا أمام هذا المعمار الاسطورة!". وفي تصريح له لجريدة التايمز بتاريخ 15 ديسمبر 2007، وبمناسبة بلوغه المائة عام، قال "اوُسْكَار نِيمَايْرْ": <.. التاريخ لا يهم، العمر لا يهم، الوقت لا يهم! الحياة مجرد لحظة عابرة. المهم أن تترك بصمة وتكون متفائلا. ننظر خلفنا ونفكر ماذا خلفنا وفعلنا في هذة الحياة وكان أمراً جيداً حتى وأن كان بسيطاً متواضعاً. كل منا يصنع حكايته: قصته ويمضي قدماً. هذة هي الحياة!" كما لاحظ ناقد برتغالي آخر بان "اوُسْكَار نِيمَايْرْ" لم يتغير سياسياُ كثيرا منذ أن كان شاباً. كما تحدث المعمار عن نفسه بهذة المناسبة قائلا ".. الحياة تمر كالريح. وأنا أؤمن اننا جميعاً لدينا مهمة في الحياة، وفي نفس الوقت لا اعلم لماذا نحن هنا. اخبركم جميعاً: اذا وصل شخص ما الى 100 عام من عمره، وهو يؤمن بالثورة، وبالحب، وبالسعادة؛ عندها يتعين علينا أن نفيق بسرعة ونعمل الجزء البسيط الخاص بنا في هذة الحياة....ومن الممكن تغيير العالم، فانا ارغب في ذلك!"

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

نادٍ كويتي يتعرض لاحتيال كروي في مصر

العثور على 3 جثث لإرهابيين بموقع الضربة الجوية في جبال حمرين

اعتقال أب عنّف ابنته حتى الموت في بغداد

زلزال بقوة 7.4 درجة يضرب تشيلي

حارس إسبانيا يغيب لنهاية 2024

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram