اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > جامعات تصنع عقولا متفوقة

جامعات تصنع عقولا متفوقة

نشر في: 12 سبتمبر, 2023: 09:33 م

لطفية الدليمي

الأفعال الكبيرة التي ترتقي بحياتنا هي صناعة نخبويين فكراً وعلماً وقدرة تقنية وبُعْدَ نظرٍ فلسفياً. من يستمرئون العيش العادي ولم يتطلعوا للمثابات العالية ومغادرة المحضن الرخو الخالي من الأعباء والمسؤوليات لن يصنعوا فارقاً نوعياً في الحياة، ولن يكونوا شواخص نخبوية مُعلّمة بمستحقات الامتياز والجدارة.

كلّ الافعال الجيّدة التي تُعلي شأن الحياة تتفرّد بميزة نخبوية وإلا فقدت إمتيازها النوعي الذي يُعليها عمّا سواها من الافعال. هذه قاعدة لاأظننا نختلف بشأنها.

النخبوية Elitism بهذا الفهم هي القدرة على صناعة انعطافة نوعية في حياة البشر، وهي أبعد ماتكون عن الامتيازات الموروثة. النخبوية لاتعني تفرّد الامتلاك وعظمته بل تعني صناعة شيء وتخليقه من محض أفكار قد تبدو لآخرين أفكاراً عابرة مثل سواها. النخبوية بمعناها الدقيق جهد وفكر وتعب. هنا يحقُّ لنا أن نتساءل: كيف تُصنَعُ النخب؟

جوابي الواضح والمباشر: النخبوية صناعة شخصية خالصة. لاأحد سيشاركك في مسعاك النخبوي. أنت تشقُّ طريقك بجهدك وتعبك؛ لكنّ هذه ليست كلّ الحكاية. هناك عوامل مساعدة للنخبوية أهمّها: السياسات الحكومية. نحن في نهاية الامر لسنا أفراداً نعيش في كهوف معزولة. ثمة قوانين تحكمنا ونتحرّك في إطارها الناظم، وهذه القوانين نتاج سياسات حكومية تقودها رؤية فلسفية سياسية واقتصادية. دعونا لانوغلْ كثيراً في الكلام العام المرسل ولنتّخذ من وقائع محدّدة مصاديق لما نريد من رؤى وشواهد وأمثلة على سياسة صناعة النخبة.

هل صناعة النخب اقرار بالداروينية الاجتماعية؟

الولايات المتّحدة الامريكية هي الدولة العظمى المتفردة في العالم؛ لكنّ هذا لايعني أنّ نظمها هي الأجود والأعلى والأفضل في العالم. ربما سيندهش كثيرون منّا لو علموا أنّ النظام التعليمي الامريكي ماقبل الجامعي هو نظام أبعد مايكون عن الجودة، وهو غير قادر على المنافسة مع نظيراته من نُظُم التعليم الصينية والهندية والسنغافورية والكورية. هذا ماتشهد به نتائج المسابقات العالمية في الرياضيات على سبيل المثال. النظام التعليمي الامريكي لايهتمُّ كثيراً بمعايير الرفعة الاكاديمية، وطلبة المدارس الامريكية بالكاد يستطيعون إتقان متطلبات التعبير باللغة الانكليزية وقواعد الحساب، أو – باختصار – المتطلبات التي تجعل المرء يغادر صفة الانسان الأمّي illiterate person. هذا ماتريده السياسة التعليمية الامريكية؛ لكنّ الامر يختلف تماماً عندما نقتربُ من الدراسات العليا في الجامعات الامريكية التي تعدُّ المصنع الأساسي للنخب الامريكية والعالمية في شتى الحقول المعرفية. كيف يمكن فهم هذه الاشكالية؟

يرى الامريكيون أنّ الموارد الرأسمالية المتاحة هي محدودة دوماً مهما تعاظمت، ولايصحُّ هدرها في غير مواردها الصحيحة. هُمْ لايعوّلون كثيراً على الحشود الكبيرة لأنهم يعلمون أنّ الانعطافات المفصلية في تاريخ النوع البشري لاتصنعها سوى نخبةٍ صغيرة؛ لذا فإنّ التعليم ماقبل الجامعي هو إختبار يراد منه اصطفاء نخبة محدودة لها القدرة الذهنية والمعرفية وشغف البحث والتفكّر. هذه النخبة هي التي تتوجه لها الموارد الكبرى في الدراسات العليا وبأشكال عديدة منها: المنح والزمالات ودراسات الدكتوراه ومابعد الدكتوراه... . إلخ.

السياسة التعليمية الامريكية ميدان تطبيق واسع النطاق للداروينية الاجتماعية في ميدان تصنيع من هو قادرٌ على الانضمام لنادي النخبة؛ أما غير القادر فلاخيار سوى استبعاده. أنت عندما تمتلك مقدرة أكاديمية أو مهنية متفردة سيكون بوسعك دوماً الابحار في لجّة المصاعب كيفما كانت، وفي النهاية لن تكون الدراسات العليا أو التحدّيات التقنية سوى ميدان تجمّع لأفضل العقول وأكثرها رقياً. هذا بعض ماصنع التفوّق الامريكي رغم سوء وهشاشة مظاهر كثيرة في الحياة الامريكية.

الآسيويون بعيدون عن تطبيق السياسات التعليمية المنطوية على نزعة داروينية واضحة. هُمْ مضادون لوجهة نظر الداروينية الاجتماعية لأنّهم يرون أنّ رعاية الدولة يمكن أن تُنشئ فارقاً في القدرات التي يمكن توظيفها في خدمة المجتمع. تلك سياستان ورؤيتان، وكلٌّ يتطلّع للإمساك بحصته وحجز مقعده في هذا العالم عبر خلق فرادته النخبوية.

معهد MIT انموذج نخبوي

ناقش كثير من منظّري ستراتيجيات التنمية البشرية والاقتصادية العوامل المفضية إلى إرتقاء البلدان وعلوّ شأنها وتعظيم مساهمتها في التقدّم البشري العالمي، واتفق هؤلاء أنّ التعليم يمثلُ حجر زاوية عظمى تتقدّمُ على كلّ العناصر الأخرى، والتعليم هنا هو التعليم ماقبل الجامعي والجامعي (في مرحلة الدراسات الأولية والعليا). من مصاديق هذه الرؤية أنك يندرُ أن تجد بلداً أحرز شوطاً عالمياً في مضمار التقدم من غير أن تكون له مؤسسات تعليمية مشهودةٌ بسمعتها العالمية التي جعلت منها أيقونات حقيقية تمثلُ رافعات نهضوية شامخة، والامثلة في هذا الميدان كثيرة: جامعتا أكسفورد وكامبردج في بريطانيا، جامعتا غوتنغن وهايدلبرغ في ألمانيا، جامعتا السوربون وباريس في فرنسا، وجامعات هارفرد وبرينستون وييل وبقية جامعات النخبة الأمريكية.

من الأمور المحرّكة لشغفي – مثلما أحسبهُ سيحرّكُ مكامن شغف كثيرين مثلي – أن يقرأ المرء تأريخ نشوء فكرة الجامعة، وكيف تطوّرت المؤسسات التعليمية من مدارس لاهوتية لتعليم الدين والانسانيات واللغات الكلاسيكية والآداب حتى بلوغها هذا الطيف الواسع من الجامعات في عصرنا الحالي. يمكنُ في أقلّ تقديرٍ القولُ أنّ تأريخ تطوّر فكرة الجامعة إنما يمثلُ قراءة تاريخ التغيرات التي طرأت على الفكر السياسي والمجتمعي فيما يخصُّ صناعة الدولة ومؤسساتها، وليس أدلّ على هذا – كمثال واحد فحسب - من المناقشات العميقة التي طالت كافة النخب وصانعي السياسات الأمريكية، والتعليمية منها بخاصة، عقب نجاح الاتحاد السوفييتي السابق في إطلاق أول قمر إصطناعي إلى الفضاء، وتركزت المناقشات في حينها على التغيرات البنيوية العميقة التي يجب أن تحصل في ميدان تعليم العلوم والرياضيات في كافة مراحل التعليم.

لي مع معهد ماساتشوستس التقني MIT حكاية مثيرة؛ فقد قرأتُ وسمعتُ الكثير عن نخبويته وكونه مطمح طلبة أمريكا والعالم الطموحين ذوي الامكانيات العالية. قادني شغفي إلى التساؤل: كيف لمعهدٍ تقني أن يحوز تلك البصمة المميزة على صعيد التعليم الجامعي بحيث باتت المرتبة الاولى – أو القريبة من الاولى – هي ترتيبه المتوقع بين الجامعات العالمية منذ عقود بعيدة؟ كان هذا السؤال محفزاً لي للبحث في تاريخ نشأة هذا المعهد، واهتديتُ بعد وقت إلى كتاب رائع عنوانه عقلٌ ويدٌ: ولادةُ MIT

Mind and Hand: The Birth of MIT

ألّفه منتصف ستينات القرن الماضي البروفسور (جوليوس آدم ستراتون) وهو أحد الذين شغلوا موقع رئيس هذا المعهد لمدة جاوزت عشر سنوات، وقد نشرت مطبعة المعهد نسخة محدثة من هذا الكتاب عام 2005. الكتاب ضخم (يتجاوز الثمانمائة صفحة)، وهو رائع بكلّ المقاييس، ويلقي أضواء على موضوعات واسعة منها: الأصول الاوربية في التعليم الجامعي الامريكي، نشأة التعليم التقني في أمريكا، علاقة المعهد بجامعة هارفرد، رؤية الآباء المؤسسين للمعهد، مسألة التمويل، الانسانيات في التعليم التقني، المناهج الدراسية وطرق التدريس،،، ، إلخ.

أسبابٌ عديدة جعلتني أتابعُ نشاطات هذا المعهد منها:

أولاً: يوصفُ المعهد في العادة بأنه المطبخ التقني النخبوي الذي تُطبَخُ فيه أغلبُ البرامج البحثية الريادية في حقول العلم والتقنية.

ثانياً: برامجه الدراسية الواسعة والمتنوعة، وسياسته التعليمية التي تؤكد على جعل نصف طلبته من الدراسات العليا، والنصف الآخر من طلبة الدراسات الجامعية الأولية.

ثالثاً: إصداراته الرائعة التي تمثلُ ختم الجودة في كلّ فروعها البحثية، ومنها مثلاُ سلسلته الرائعة المسماة (Essential Knowledge Series) التي تتناول موضوعات شتى تخاطب القارئ الشغوف غير المتحصل على دراسة تخصصية.

رابعاً: إنّ بعض أكفأ علمائنا العرب حصلوا على شهاداتهم العليا من هذا المعهد، وهم وإن كانوا قليلي العدد لكنّ مآثرهم لم تزل مشهودة.

خامساً: لطالما لعب رؤساء هذا المعهد وأساتذته أدواراً عظيمة في تاريخ العلم الامريكي والتقنية الامريكية والسياسة الامريكية، أذكر من هؤلاء البروفسور فانيفار بوش Vannevar Bush الذي عُهِدَت إليه مسؤولية تنظيم الجهد العلمي والتقني الأمريكي خلال الحرب العالمية الثانية، كما كان مسؤولاً عن تنظيم هذا الجهد بعد نهاية الحرب عبر عمله مستشاراً علمياً للرئيس ترومان.

الهند مستوى الامة نخبوية على

لن نجافي الحقيقة إذا قلنا إنّ الآيديولوجيات العربية التي تمثّلت في عناوين حزبية عريضة فشلت فشلاً ذريعاً في التعامل مع مخرجات العلم والتقنية مثلما فشلت في صناعة نخبة متقدّمة على كافة الصُعُد؛ لذا صار علينا أن نبحث عن مخرج مناسب من عنق هذه الزجاجة (الحزبية) والإنطلاق الحرّ نحو فضاء التجارب الناجحة، ولابأس من تمثّل بعض التجارب التي سبقتنا وأثبتت بالدليل الملموس رياديتها وتأثيرها في خلق إنعطافات مؤثرة في حياة شعوبها والعالم أجمع.

أمسى وادي السليكون في كاليفورنيا علامة فارقة في عصرنا هذا على الصعيدين التقني والآيديولوجي: أما التقني فهو لكون وادي السليكون تطوّر من مرفق تقني بسيط إلى مطبخ تقني هائل يجري فيه تجريب كلّ التقنيات الثورية الجديدة وبخاصة في ميدان الإتصالات والمعلوماتية، وأما الجانب الآيديولوجي فيعود لكون وادي السليكون صار مثالاً للكيفية التي تتعشق بها الأفكار العلمية المستحدثة مع التطبيقات غير المسبوقة بطريقة مؤثرة على الصعد كافة - السياسية والإقتصادية والمالية - بحيث لم يعُد ثمة إمكانية لتخليق آيديولوجيات بعيدة عن الفضاء العلمي والتقني كما كان الأمر في العقود الماضية من القرن العشرين.

تجربة الهند مثالٌ يمكن توظيفه: هذه المئات من ملايين البشر الذين وُصفوا بأنهم (أمة من العباقرة) بحسب عنوان كتاب صدر عن سلسلة (عالم المعرفة) الكويتية يحكي عن التجربة الهندية في كيفية وضع بصماتها المميزة على معظم مفاصل سوق المعلوماتية العالمية، وقد بلغ الأمر أن تصبح معظم الشخصيات القيادية في المفاصل التقنية العالمية هنوداً ذوي إمكانات إدارية وتقنية عالية.

كيف حصل الامر؟ بالرؤية القيادية المستقبلية المتقدمة للراحل (نهرو) الذي عرف الأهمية الستراتيجية لصناعة النخبة الاكاديمية والتقنية؛ فعمل على تأسيس مؤسسة تعليمية نخبوية هي معهد التقنية الهندي IIT ليكون نظيراً لمعهد MIT، كما ساهم في تأسيس مركز تقني في مدينة (بنغالور) شبيه بوادي السليكون الأمريكي في ولاية كاليفورنيا، وقد ساهم المركز الهندي في تدريب الآلاف من الكفاءات العالية التي شاركت في إطلاق مارد الإقتصاد الهندي ونقله إلى مصاف الإقتصادات العالمية العملاقة.

خلاصة: العلم يصلح ماخربته الايديولوجيا

ثمّة فسحة من الوقت دوماً لمن يسعى للفرادة والتميّز بوسائل حقيقية بعيداً عن الزعيق الآيديولوجي. يمكننا تخليق قاعدة نخبوية على صعيد التعليم وبخاصة في ميدان التقنية الرقمية حيث يمكن للنخبة الرقمية Digitocracy إحداثُ فارق نوعي سريع ومشهود على الارض في طبيعة الحياة اليومية. كل ماتحتاجه النخبة الرقمية هو الشغف الذي يعزّز إرادة التغيير وقلب موازين القوى في وقت قصير.

أظنُّ أنّ منطقة الخليج العربي باتت تمثل الجهة الريادية التي يمكنها أن تصبح ميدان اختبار حقيقياً لمفاعيل تأثير صناعة النخبة في الارتقاء بالحياة العربية وجعلها فاعلاً حقيقياً في الخريطة العالمية خلال السنوات القليلة المقبلة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

نادٍ كويتي يتعرض لاحتيال كروي في مصر

العثور على 3 جثث لإرهابيين بموقع الضربة الجوية في جبال حمرين

اعتقال أب عنّف ابنته حتى الموت في بغداد

زلزال بقوة 7.4 درجة يضرب تشيلي

حارس إسبانيا يغيب لنهاية 2024

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram