حيدر المحسن
في إحدى ساحات دمشق، وعلى مقعد من حجر، وحيداً وغريباً وجائعاً، كتب غائب طعمة فرمان قصص مجموعته الأولى (حصيد الرّحى) عام 1954، وفيها يجد القارئ ما يمكن أن ندعوه الخطوة المتقدّمة الأولى في فنّ القصّ العراقي، وقد ولدَت في المنفى، وكان فرمان مُطاردا في أثناء كتابتها بالحقّ أو بالباطل من قِبل شرطة الحكم الملكيّ الهاشميّ الدستوريّ الوطنيّ المُباد... ولك أن تختار من هذه الصفات بما يلائم تفكيرك ويوائم اعتقادَك.
ما قدّمه عبد الحقّ فاضل، الأديب موصليّ الأصل بغداديّ النشأة، في كتابه (مزاح لا أكثر) عام 1940، يمكننا عدّه المحاولة الجادّة الأولى في صنع مجموعة قصصيّة عراقيّة تمتلك القدر الكافي من شروط فنّ السرد. نشر محمود أحمد السيّد وجعفر الخليلي وذو النون أيّوب كتبا قصصيّة في زمن قريب من هذا العام، لكنها كانت تمارين في الكتابة السّرديّة، ولا يمكننا حجز مكان لها مع (مزاح لا أكثر).
للروائي ساراماغو عبارة شهيرة: "أنا لا أكتب فقط، بل أكتب ما أنا عليه". بعد مجموعته القصصية الثّانية (مولود آخر) اتّجه غائب طعمة فرمان إلى القصّة الطّويلة، وهكذا جاءنا بما يعدّه النّقّاد الرّواية العراقية الأولى: (النّخلة والجيران) عام 1966، ثم تتالت أعماله: (خمسة أصوات) و(المخاض) و(القربان) وكلّها كُتِبتْ بعد ارتحاله إلى بلاد السّوفيات، وكان قد تأثّر كثيرا بذلك المناخ القارس، شيئا فشيئا وسنة إثر أخرى وعقدا بعد آخر، إلى أن جاءت رواياته الأخيرة (المرتجى والمؤجّل) و(آلام السيّد معروف) و(المركب) وفيها شميم بلده الأول وقد تلاشى، تقريبا.
درج النّقاد في العراق على تسمية فرمان بالرّوائيّ الواقعيّ، والحقيقة أن المرء يحار في وصف قصصه الطّويلة، هل هي روايات بدائيّة، أم أنّه كان يؤرّخ للزّمان الحقيقيّ لما يمكن أن ندعوَه بما قبل الرّواية، وميزة هذه أنّ الكاتب ينشغل طوال الوقت في نحت شخصيّاته إلى أن يجعلها مثلنا، كائنات من لحم ودم. فهي إذن مخلوقات تعيش في الواقع، وتموت تماماً كما يموت البشر. لو أخذنا العمل السّرديّ الأوّل في الوجود، وهو ملحمة كلكامش، للاحظنا مقدار الجهد الذي بذله المؤلف كي يجعل شخوصه لا ينتمون إلى الواقع مئة بالمئة. كلكامش إله من البشر، وأنكيدو حيوان منهم، وخمبابا هو الوحش، وامرأة الحانة تبيع الخمرة ومعها الحكمة الخالدة. جميع هؤلاء لا ينتمون إلى البيئة التي نعيشها، لكنهم يمثّلوننا في الحقيقة أكثر منّا.
اكتملت القصّة القصيرة بشروطها الفنيّة لدى عبد الحقّ فاضل، بالإضافة إلى قاصّ موصليّ آخر هو يوسف متّي، فهما رائدا القصّة القصيرة في العراق، وكانت جهود الباقين (الخليلي ومحمود السيّد وأيّوب) متواضعة للغاية، أما غائب طعمة فرمان فإن خطوته في فنّ القصّ كانت عظيمة، وهذا ما يُحسَبُ له. صار التأليف القصصي بين يديه إيمانا قبل أن يكون هواية، وتجربة في تاريخ الإبداع وليست عملاً تقريرياً منشَؤُه الصّدفة أو الحادثة أو غير ذلك مما يظهر كلّ يوم، ويفنى في اليوم نفسه. كما أنّه أوّل من كتب الرّواية بشكلها البدائيّ، إن صحّ التّعبير، وهو صاحب الحنين إلى الأرض، فلم يجد قلمَه بحرف عن غير أهله وناسه، وإن جاءت الرّيح بما لا يشتهي اليراع، ويبقى الإخلاص هو المسألة المهمّة، لكنها ليست الأهمّ.
عندما نُعيد قراءة قصص عبد الحقّ فاضل الآن نراها متطوّرة للغاية، إذا أخذنا بالحساب زمن تأليفها، ويقف دونها ما يأتي من يراع أشهر كتّاب القصّة في الوقت الحاضر، كما أنه كتب رواية (مجنونان) عام 1958 واشتغل، بالإضافة إلى عمله الدّبلوماسي، بأعمال التّرجمة والتّأليف اللغوي، وانشغل فرمان هو الآخر بالتّرجمة عن الرّوسيّة، كما أن هناك تشابها في نوع الموهبة والعاطفة الإنسانيّة بين الاثنين، وهاتان هما عُدّة الأديب في العمل، ويتماثل الكاتبان كذلك في حِسّ الانتماء إلى أرض الوطن رغم الابتعاد عنه، ومع أن الجمع بينهما في صفحة واحدة يُعدّ تعسّفا في الرّأي، لكنّ القلمَ سار في هذه الطريق، وكانت له وجهةً يقصدها...