اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > مُخْتَارَات : تاْداوْ آنْـدُو

مُخْتَارَات : تاْداوْ آنْـدُو

نشر في: 17 سبتمبر, 2023: 11:43 م

د. خالد السلطاني

معمار وأكاديمي

ارتبط اسم المعمار الياباني ذو الشهرة العالمية "تاْداوْ آنْـدُو" (1941) Tadao Ando، بالمقاربة المعمارية المسماة بـ "الاختزالية" Minimalism،

التي ظهرت، كما ظهرت غيرها من المقاربات، غداة "الانقلاب" المعماري والثقافي الذي بدأ تظهر إرهاصاته اعتبارا من منتصف الستينات، والذي افضى الى تيارات ما يعرف "بعمارة ما بعد الحداثة" Post- Modern Architecture.

وفي كتابي "عمارات" الذي سيصدر قريبا، اتيت هناك على سيرة هذا المعمار المميز، وكتبت عنه ما يلي:

".. عندما شاهدت "تاْداوْ آنْـدُو"، لاول مرة، اثناء محاضرة له في "مدرستنا" المعمارية في كوبنهاغن، وبدعوة خاصة له منها، بخريف عام 2011، لم اكن اصدق، بان هذا الشخص الذي مرّ امامي متوجهاً نحو المنصة، ذا القامة غير الطويلة، والنحيلة و"الضعيفة" نوعا ما، هو ذاته الشخص "الملاكم" و"الحمّال" وسائق التاكسي السابق؛ وكل هذه المهن مارسها "تاداو" في مطلع حياته، قبل ان يقرر، "فجأة" ان يكون "معماراً". وتثير السيرة الذاتية الخاصة بـه، اهتماماً عالياً من قبل كثر، وقد ترتقي باثارتها واحداثها، التى تبدو، احياناً، غير واقعية وقريبة من الخيال، الى ان تكون مكافئة لاهمية الحدث التصميمي المجترح، او بالاحرى، لخصوصية المقاربة المعمارية التى اختارها، وعمل على ان تكون جزءًا من شخصيته وعنواناً لمنتجه التصميمي".

ولد "تاْداوْ " قبل ولادة اخية التوأم بدقائق من يوم 13 ايلول سنة 1941 في مدينة اوسكا، (جنوب وسط اليابان)، وفي عمر السنتين، سعىت عائلته الى التفريق بينهما، وعاش "تاداو" عند جدته لامه. وعندما اصبح في العشرينات مارس تلك المهن المتنوعة والمتناقضة التى ذكرناها توا. وفي تلك السنين، قرر ان يضحى مهندسا معماريا رغم انه لم يدرس العمارة في اية مؤسسة تعليمة سابقا. وقد سحرته واثارت دهشته عمارة "الفندق الامبرطوري" في طوكيو، المصمم من قبل فرنك لويد رايت في العشرينات من القرن الماضي، في احدى سفراته الى العاصمة، عندما كان طالبا في السنة الثانية بمدرسته الثانوية. قرر "تاداو"، بصورة مفاجئة ان ينهي مسار حياته كملاكم، بعد سنتين من تخرجه من المدرسة الثانوية، وان يكرس حياته للعمارة. ومن اجل ذلك سجل في دوام مدارس مسائية لتعلم الرسم الهندسي، وواصل في الوقت عينه اخذ دروس في التصميم الداخلي. ثم قرر ان يزور زيارات ميدانية لابنية مصممة من قبل معماريين عالميين امثال "لو كوربوزيه"، و"ميس فان دير روّ" وطبعا مباني "فرنك لويد رايت"، بالاضافة الى زيارة مواقع تصاميم "لويس كان" وغيرهم من المعماريين المشهورين. هذا عدا زياراته الميدانية الى دول اوربية وافريقية وامريكية لفهم خصوصية النماذج المختلفة لعمارة تلك المباني وادراك فلسفتها التصميمية. معتبراً ان الزيارات الميدانية للمباني المختلفة التى قام بها، هي بمثابة "جامعاته" الحقيقية، التى منها نهل معلوماته المعمارية. ويذكر "تاداو"، بانه لكثرة اعادة تخطيطات مباني لو كوربوزيه، فان صفحات كتابه عن مبان المعمار الشهير باتت سوداء لفرط اعادة الرسوم ذاتها من قبله! عند رجوعه الى بلده، سنة 1969 اسس مكتب "تاداو آندو ومشاركوه معماريون"، وبدء في عمل تصاميم ذات لغة ساحرة ومعبرة، تشي، بنوعية الثقافة اليابانية البنائية التقليدية الفريدة. وقد تكرس اسمه وعمارته، كاحد ممثلي "الاختزالية" Minimalism.

بالنسبة الى "تاْداوْ آنْـدُو"، تبقى "العمارة"، يبقى فضاءها المصمم، مدار فهم وادراك خاصين لديه. فالحيز المجترح عنده، يدين لوجوده، بالدرجة الاولى، الى كونه مكاناً زاخراً بالشواهد الطبيعية، اكثر بكثير منه مكاناً مشيدأً وفقاً للاشتراطات التقنية والاذعان لمتطلباتها. ففي مقاربته لموضوعه التصميمي، يسعى المعمار وراء النأي بعيداً عن المفهوم الشائع للعمارة الذي رسخته عميقا في المشهد الثقافي مفاهيم الاطروحات الغربية المتنوعة وافكارها، هي التى ساهمت في تحديد معناه ضمن قيم ودلالات صارمة، والاهم جردته من محاولات اصطباغه باحاسيس انسانية عادية مكتفيه ومقتنعة بمرجعيته المادية. وفي هذا المعنى تحديدا، يتطلع "تاْداوْ آنْـدُو" أن تكون مقاربتة التصميمية الخاصة نوعاً من مداخلة مفاهيمية آخرى، تقدم "العمارة" برؤى متنوعة وبفهم مختلف. كما لو ان المعمار المجتهد ينزع الى إكساب "فضائه" المجترح قيماً واجتهادات معينة يمزجها مع تقاليد مجتمعه المميزة، ليجعل منه "حيزاً" تصميماً معبراً، ليس بالضرورة ان يكون متطابقاً ومتماثلاً مع الفهم "الغربي" لمعنى الفضاء المعماري ومدلوله. كما لو ان "تاْداوْ آنْـدُو" يتوق لنفح "احيازه" المصممة بروح حية، كاسباً اياها مكانة خاصة تفصلها عن المفاهيم المادية و"الارضية" الدارجة. كما لو ان هذا الحيز المجترح قادر فعلاً على اظهار تلك الاحاسيس الانسانية. ويبقى تميز "تاْداوْ آنْـدُو" المهني وسيرته الذاتية المدهشة واستثنائية خياراته، عاملا جوهرياً في جعل "عمارته" المميزة والفريدة لتكون حدثاً تصميميا لافتاً، وان تدرك اشكاله المجترحة غير العادية وتفهم فيض المعاني الرمزية الموحية بها تلك الاشكال المصممة بمثابة دلالات مقنعة لذلك الحدث الفريد.

ادناه مقتطفات، وبترجمتي، تعكس جزءًا من مفاهيمه المعمارية كتبها "تاْداوْ آنْـدُو" في اوقات مختلفة، وهي مستلة من كتاب: "تاْداوْ آنْـدُو: العمارة والروح" Tadao Ando: Architecture & Spirt الصادر في برشلونة / اسبانيا سنة 1998.

<الإِنْسانيَّةُ>

" - يكمن هدف عمارتي بمنح الفضاء المصمم نوعاً من معنى، عبر استخدام العناصر الطبيعية والجوانب المتنوعة للحياة اليومية. ان الاشكال التى احب تصميمها، هي التى اكتسبت دلالاتها من خلال علاقتها بعناصر الطبيعة: الضوء والهواء الدالة على مرور الزمن وتغيير الفصول".

يرى "تاْداوْ آنْـدُو"، بان العمارة غالباً ما تكون مقيّدة باشتراطات اقتصادية وتكنولوجية وبُنى أنشائية مبنية بطريقة محافظة وبشكل مفرط. وهو يجادل بانها تخلت عن نوع ما من "فضاء"، قادر لاستدعاء الالهام: الهام الروح. ولهذا السبب يصر بمحاولة شخصية الى "حقن" عمارته بقوة توهلها لتوليد مشاعر، تمكن المرء ان يشعر بها داخل نفسه".

- يلحظ "آنْـدُو" بان الفضاء يتعين ان يمتلك القوة والجرأة لاثارة المشاعر، ولذلك فهو يفترض بان الاشكال في العمارة تبدو "ظاهرية" (مرئية)؛ ويتعين ان تتجاوز طبيعتها الملموسة، لكي تجعل من نفسها غير مرئية عند تشكيلها للمنظر الخارجي الطبيعي "اللاندسكيب" الجديد".

- ".. أعتقد بأن العمارة يجب ان تمتلك وظيفة مزدوجة، مرة لانها يتعين عليها اجتراح فضاء صالح للسكن، وفي نفس الوقت ان يكون ذلك الفضاء عابقاً بالرمزية. وانا تواق الى ِاصطِباغ العمارة بمثل هذة القدرة من خلال اللجوء لاستخدامات الاشكال الهندسية الصافية (البسيطة)، وتوظيف مواد مقننة مثل الخرسانة والخشب والحجر لجهة خلق انواع من الفضاءات باستطاعتها ان تثير اهتمامي. وفي مثل هذة الامكنة ستكون العلاقات بين الناس الذين يسكنون فيها متسمة بالاخلاص بالضرورة. وفي حيز غير مزخرف ولا مزين لا يوجد سوى مكان لشخوص مخلصين. فعندما يكون الضوء والهواء في الفضاءات المصممة اكثر أهمية من الطريقة التى يتم بها تنفيذ المباني ذاتها، فانها تسمح بتطوير انواع اخرى من العلاقات بين الناس انفسهم، أضافة الى الاهتمام الجدي لكل فرد على حده. وفي الحقيقة، فاني المباني التى اجترحها تكون عادة مفعمة بالقيم الروحية، لانها فضاءات "اولية"؛ يمكن للفرد ان يتوسع وينمو بعيدا عن مشاكل التقييس والنمذجة التى تحيط بالناس في المجتمعات ما بعد الصناعية. وبالاضافة الى توفير نوع اعمق من علاقة بين الاشخاص الساكنين في فضاءاتي. فانا ارغب ان يكون هناك علاقات جديدة وغير مألوفة، والتى يصعب علي الان شرحها وتفسيرها، ما بين الناس الذين سيمروا على ابنيتي. هذا هو طموحي، وآمل بان مثل تلك الفضاءات، خلافاً للالتباس والتشتيت، بمقدورها ان تحسن انسانية البشر!".

<اَلْخَرَسانَة>ُ

"- لقد اخترت الخرسانة باعتبارها المادة الرئيسية لجميع مشاريعي تقريباُ. وهذا الاختيار ليس فقط لاسباب اقتصادية لوحدها؛ وإنما كنت اتوق للوصول الى <النقاء المكاني>. فالاستجابة الذهنية وجودة المكان الروحية، هما المعول عليهما في توليد العمارة". ومن اجل التأكيد على اهمية دور تواجد المعمار في الموقع ثناء عمليةالبناء، يؤكد "آنْـدُو"بان "التفاصيل ماهي الا علامات معمارية مرئية لأفكار المعمار في ايجاد حلول مقنعة بين الجزء والكل. فالكثير منها (من تلك التفاصيل) تظهر اثناء عملية البناء"

وفي مكان آخر يشير "آنْـدُو" بان تعاطيه مع اشكال بسيطة للغاية، مثل الدائرة وتقسيمات المربع، فانه تمكن من فهم التوازن الذي يجب ان يكون حاضرا ما بين شكل معين ونوعية المادة التى يتم بها تنفيذها. ولهذا السبب فانه ينزع لان تكون مشاريعه متضمنة ثلاثة عناصر اساسية: المواد الاصيلة (الخرسانة، والخشب غير المهذب)، والاشكال الهندسية الصافية، ومفردات الطبيعة الاليفة في شكل الضوء والماء والهواء".

<الطَّبيعَة>ُ

"- ان حياة الانسان ليست بالضرورة تعني معارضة للطبيعة، أو الحماية منها، او حتى محاولة اخضاعها. فهدف الانسان هو توحيد نفسه مع الطبيعة. وبالضد من ما يحدث في الغرب، فان الثقافة اليابانية تميل الى تفكيك الحواجز المادية ما بين "البيت" و"الارض"، ما بين الداخل والخارج. ففي رأيه بأن نتائج الحرب العالمية الثانية استطاعت ان تحول بشكل جذري علاقة عمارة بلاده مع الطبيعة. "لقد استبدلت اليابان ثقافة نادرة كانت قريبة جدا من الأرض، باسلوب حياة حضرية مستوردة من الغرب. ومع هذا فان سكان تلك الفضاءات الحضرية الجديدة، ما انفكوا يشعرون بالحنين الى الارض، والقرب من الطبيعة". ومن خلال رؤى الانفصام هذة عن الطبيعة، يحذر "آنْـدُو" من ان "أعتماد الافكار المعمارية على المنطق لوحده، التى ربما تقود الى نظام صارم، تجعل المباني المسيطر عليها، تتجاهل في هذة الحالة الحضور الانساني ووجوده. ومن الصعب بمكان الاحساس بوجود حس انساني في مثل تلك الاحياز. ان وجود الطبيعة: الماء، والريح والضوء والسماء المفتوحة- هو الذي يضفي طابعا انسانيا على الفضاء المصمم. ولهذا السبب فاني احاول ان اصمم مشاريع يكون فيها الماء والضوء في حالة انسجام تام مع الحجر".

<الضَّوْءِ>

"- أن مهمة خلق الفضاء في العمارة، هي ببساطة، نوع من تكثيف وتطهير وتنقية لقوة الضوء!". وقد اشار"تاْداوْ آنْـدُو" بان <العمارة الغربية> استخدمت جدران سميكة لفصل الاجزاء الداخلية في المبنى مع الخارج، لصد، على ما يبدو، هذا العالم الخارجي. وبالغاء هذا الارث فان عمارة الحداثة حولت فكرة الاضاءة الى انتاج ما يشبه عالم شفاف وإنارته بشكل مبهر. فالضوء المبالغ فيه، الخاص بعمارة الحداثة، افضى الى موت الفضاء وهو ذات الموت الذي يمكن ان يستحدثه الظلام الدامس!".

<النِّظامُ>

"- تملى الاستراحة الذهنية والصفات الروحية خصوصياتها على نوعية طبيعة المسكن. فالاحياز المنزلية يتعين ان تحث على الاسترخاء. كم ان الصفاء الذهني، يجب ان لا تقل اهميته عن الراحة الجسدية، ولهذا السبب يتعين ان يوفرا الشكل والفضاء، الراحة الجسدية والصفاء الذهني". وفي هذا الصدد يوضح "آنْـدُو" ما قد يبدو تناقضاُ او مستوى آخر من التعقيد في أفكاره "..اعتقد ان التقشف، مثل الراحة، يشكل جزءاً من الحياة. وفي العديد من ابنيتي السكنية يوجد كلا الاحتمالين جنباً الى جنب.." ويضيف ايضاً ".. انا احاول ان اضع، في وسط الطبيعة، ابنية ذات متاهات في داخلها وفي نظامها وفي طبيعتها، واشياء اقرب الى الطبيعة من عمل الانسان. والمتاهات التى تم الحصول عليها من استخدامات الاشكال البسيطة، تهمني كثيراً. تماما كما افضل الغموض على القوة لانها اكثر ثراءً في الفروق الدقيقة وأطول أمداُ مع مرور الوقت".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

نادٍ كويتي يتعرض لاحتيال كروي في مصر

العثور على 3 جثث لإرهابيين بموقع الضربة الجوية في جبال حمرين

اعتقال أب عنّف ابنته حتى الموت في بغداد

زلزال بقوة 7.4 درجة يضرب تشيلي

حارس إسبانيا يغيب لنهاية 2024

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram