اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > كيف صنعت الفلسفة عالمنا؟ الفلسفة منذ أفلاطون حتى العصر الرقمي

كيف صنعت الفلسفة عالمنا؟ الفلسفة منذ أفلاطون حتى العصر الرقمي

نشر في: 19 سبتمبر, 2023: 11:06 م

لطفية الدليمي

لو جرّبنا قراءة أحد الكتب الحديثة المشهود لها بالرصانة في أي حقل معرفي فلن يكون عسيراً علينا ملاحظة النكهة الفلسفية للمادة التي يحتويها الكتاب.

يمكننا القول مبدئياً: لانستطيع عدّ أي كتاب رصيناً مالم يحتوِ ألواناً من العرض الفلسفي على مستوى الموضوعات والمساءلة والرؤية النقدية. بغياب الروح الفلسفية سيكون الكتاب أقرب لأطروحة آيديولوجية ساكنة أو وصفة من وصفات الطبخ!!

الفلسفة قرينة الفكر النقدي والمساءلة المستديمة والتغيّر المعرفي الذي لاينقطع؛ ولأجل هذا وبسببه كانت الفلسفة العُدّة الجوهرية التي نمت منذ عصر النهضة الاوربية وترافقت مع كلّ ثورة علمية أو تقنية. علينا أن نتوقّع تغييراً محتوماً في وسائلنا الفلسفية مع كلّ ثورة معرفية، وربما يمكننا ان نلحظ المكانة المميزة للفلسفة في تواتر التقليد العلمي باقتران شهادة الدكتوراه في أي حقل معرفي بعبارة PH.D (دكتوراه الفلسفة في ذلك الحقل)، وهي لاتعني شهادة في الفلسفة بقدر ماتعني التمكّن والاحاطة والمعرفة الرصينة في الوسائل البحثية والاستقصائية الخاصة بذلك الحقل المعرفي.

الفلسفة في العالم العربي تعاني قصوراً كبيراً على الصعيد العام والاكاديمي. لستُ هنا في سياق الحديث العام عن ركود الانساق المعرفية في الثقافة العربية واقترابها من تخوم الايديولوجيا أو اللاهوت وهو ممّا يتقاطع مع الروح الفلسفية؛ لكن سأشيرُ إلى ثلاث موضوعات أساسية أرى أنها تسبّبت في قصور الذائقة الفلسفية العربية:

الاولى: إهتمامنا بتاريخ الفلسفة أكثر من المساءلة الفلسفية ذاتها، وحتى تاريخ الفلسفة يبدو فرعاً من علم الكلام وأقرب لرطانة لغوية منفّرة جعلت من الفلسفة ألاعيب حُواةٍ وسَحَرَة.

الثانية: القطيعة المعرفية بين الفلسفة والانساق الثقافية والعلمية والتقنية. بعبارة أخرى: صارت الفلسفة نشاطاً منعزلاً عن حركيات الحياة المتفجّرة والمتحرّكة.

الثالثة: غياب الدرس الفلسفي المدرسي والجامعي، وحتى لو وُجِد في مناطق جغرافية محدّدة فغالباً مايكون منفّراً وضئيلاً متّسماً بِـ (فقر الدم) المعرفي. الذائقة الجمعية أيضاً لاتستهويها الفلسفة لأنها تراها إنشغالات بعيدة مقترنة بأسماء شخصيات محدّدة. الشخوص باتت أهمّ من الافكار في الفلسفة العربية.

ليست الحال مع الفلسفة في العالم العربي بهذا السوء في السنوات الاخيرة؛ فقد طرأ تغيير جوهري في نمط الدرس الفلسفي وطرائقه ووسائل إشاعته بين الجمهور العام وبخاصة في المملكة العربية السعودية، وقد سبق لي أن كتبتُ بهذا الشأن في ثقافية (الشرق الاوسط) عندما تناولتُ تأسيس (المجلة السعودية للدراسات الفلسفية) و (منصّة معنى) التي تعنى بالفلسفة.

الكتب التي تعنى بالفلسفة كثيرة ومتاحة للجميع سواءٌ كانت مؤلفة أم مترجمة؛ لكنني لاأهوى سوى قراءة الكتب الفلسفية التي يكتبها علماء أو متخصصون في حقول معرفية شتى، أو يكتبها فلاسفة ذوو ذائقة فلسفية عابرة للتخصصات المعرفية. الكتب التي يكتبها هؤلاء ستكون طافحة بالاثارة وقادرة على إثارة مكامن الشغف العميق لدى كلّ محبّ حقيقي للفلسفة.

أحد هذه الكتب هو الكتاب المترجم حديثاً إلى العربية بعنوان (العالم الذي صنعته الفلسفة: من أفلاطون إلى العالم الرقمي)

The World Philosophy Made: From Plato to the Digital Age

لمؤلفه الفيلسوف الامريكي سكوت سومز Scott Soames. نشرت دار نشر جامعة برينستون الامريكية المرموقة هذا الكتاب عام 2019، وتولّت ترجمته إلى لغة عربية أنيقة الاستاذة (رزان يوسف سلمان)، ونشرته دار (المدى) العراقية عام 2023.

سكوت سومز فيلسوف أمريكي (مولود عام 1945)، ويعمل أستاذاً للفلسفة في جامعة جنوب كاليفورنيا منذ عام 2004، وقبلها عمل في جامعتي ييل وبرينستون. التخصص الفلسفي الدقيق للاستاذ سومز هو فلسفة اللغة، وتاريخ الفلسفة التحليلية. نشر سومز كتباً عديدة في مجالات فلسفية كثيرة، ومعروف عنه مقالاته العديدة التي تدعو للتفكّر والاثارة الذهنية..

معروف عن الفلسفة (الكلاسيكية) ولعُها الطاغي بالاسئلة الوجودية التأصيلية الخاصة بالحياة والموت والمعنى والهوية والحب والخير والشر،،،، إلخ، ثم حصلت إنعطافة مع حلول الفلسفة الوضعية المنطقية والتحليل اللغوي (الفلسفة العلمية كما أسماها المناطقة وفلاسفة المنهج العلمي). الفيلسوف الحاذق في عصرنا هذا هو الذي يستطيع - بفنّ ومعرفة وخبرة - مزاوجة الدرس الفلسفي الكلاسيكي مع المقاربة الفلسفية التحليلية، وهذا مايفعله الاستاذ سومز بطريقة متميّزة.

يبدأ الكتاب بمقدمة تعريفية بمنهج المؤلف في الكتابة، ثمّ يتبعُ المقدّمة أربعة عشر فصلاً، كلّ فصلٍ منها يتناول حقلاً معرفياً محدّداً، وتتباين الاهتمامات الفلسفية للمؤلف بين موضوعات كلاسيكية كتلك التي نلمحها في عناوين الفصول التالية (الحرية والعدالة والمجتمع الصالح، القوانين ومؤسسات الدولة، موضوعية الاخلاق، الفضيلة والسعادة والمعنى في مواجهة الموت، الموت النبيل لكلّ من سقراط وديفيد هيوم)، وموضوعات تختصّ بكيفية التعشيق المفاهيمي بين الفلسفة والموضوعات التخصصية، وهو مانلحظه في الفصول المعنونة بالعناوين التالية (المنطق الحديث وأسس الرياضيات، المنطق، الحوسبة وولادة العصر الرقمي، علم اللغة، علم الاختيار العقلاني، العقل والجسد والعلوم المعرفية، الفلسفة والفيزياء). لم ينسَ المؤلف التمهيد لكتابه بفصول تاريخية موجزة تضع القارئ في السياق التاريخي المطلوب لتسبيب المآلات الفلسفية اللاحقة، وهذا مانشهده في الفصول التي جاءت بعناوين (فجر الفلسفة الغربية، هدنة بين الايمان والعقل، بدايات العلم الحديث، مجتمعات حرّة وأسواق حرّة وناس أحرار).

يؤكّد المؤلف الاهمية الجوهرية للفلسفة (الغربية في أقلّ تقدير)، ويناقضُ أطروحة موت الفلسفة التي شاعت في سياق التبشير بموت المفاهيم والكينونات الشخصانية (موت المؤلف، موت الرواية،،،،) مع تصاعد موجة مابعد الحداثة. لايكتفي المؤلف بنقض أطروحة موت الفلسفة؛ بل ينفي أنّ الفلسفة الغربية ضلّت طريقها:

"... الفلسفة الحديثة والمعاصرة في الغرب لم تضلّ طريقها؛ بل على العكس من ذلك واصلت سجلّها الحافل بالنجاحات في وضع الاسس المفاهيمية للتقدّم في المعرفة النظرية، وفي تطوير الدراسة المنهجية للأخلاق والفلسفة السياسية ورفاهية الانسان..... "

يؤكّد المؤلف في موضع آخر من تقديمه للكتاب على الطبيعة التواصلية للفيلسوف المعاصر مع العلماء والمشتغلين في حقول التقنية والانسانيات. مامِن فيلسوف معاصر يحيا في جزيرة (فلسفية) معزولة. هذا وهم لن يتحقق ولافائدة منه:

"... كنت أعلمُ أنّ لدينا نحن الفلاسفة، في الصورة العامة، الكثير من التواصل المهني المثمر مع علماء الرياضيات والفيزياء والاحياء وعلماء النفس واللغة والادراك، وعلماء الاقتصاد والاعصاب والسياسة، وأساتذة القانون والمؤرخين وعلماء الكلاسيكيات وغيرهم. ولأنّي رئيس لقسم الفلسفة في جامعة جنوب كاليفورنيا شهدتُ الترحيب الايجابي الذي لاقاه الفرعان الجامعيان متعددا التخصصات (الفلسفة والسياسة والقانون، والفلسفة والفيزياء، وآمل أن يلقى الفرع الجديد (الفلسفة والسياسة والاقتصاد) الترحيب ذاته لدى طلّابنا... "

قد نرى مغالاة في تخصص ثلاثي الاطراف (فلسفة وسياسة وإقتصاد)؛ لكنّ جامعة أكسفورد البريطانية تدرّسُ هذا التخصص المشتبك منذ سنوات بعيدة، والمعروف أنّ معظم رؤساء الوزارة البريطانية درسوا هذا التخصص الثلاثي المثير.

الفلسفة تثير أسئلة جديدة ولاتكتفي بأن تكون نسقاً معرفياً مغلقاً نرى فيه إجابات نهائية. ميزة الفلسفة وسرُّ حيويتها الدائمة أنها تسأل أكثر ممّا تجيب:

"... هذا الكتاب يتحدّث عن الاسهامات التي قدّمها الفلاسفة – ولازالوا يقدّمونها – لحضارتنا. بالطبع لم يكن الفلاسفة وحدهم سواء كانوا غربيين أم لا هم من صنع العالم المتحضّر الذي نتمتّع به اليوم؛ لكنّ آثار جهودهم كانت أكثر عمقاً وأبعد مدى ممّا نتصوّره عادة. إنّ ماوصلنا إليه من علوم الطبيعة والرياضيات والتقنية والاجتماع والمؤسسات السياسية والحياة الاقتصادية والتعليم والثقافة والدين وفهمنا لأنفسنا قد شكّلته الفلسفة. ليس هذا بمصادفة. إنّه يرجع إلى الترابط الاساسي للفلسفة مع كلّ المعرفة التأسيسية..... "

يختتم المؤلف تقديمه بدعوة جميلة إلى القارئ لكي يجعل الفلسفة بعضاً من زاده الذهني، وممارسة يومية مقترنة بالشغف والبهجة:

"... لذا أنت مدعوٌّ ليس لإستذكار صورة عمّا صنعته الفلسفة حتى الآن فحسب؛ بل للتفلسف بنفسك قليلاً من خلال التقييم النقدي للمنطق الفلسفي الذي ستطالعه. "

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

نادٍ كويتي يتعرض لاحتيال كروي في مصر

العثور على 3 جثث لإرهابيين بموقع الضربة الجوية في جبال حمرين

اعتقال أب عنّف ابنته حتى الموت في بغداد

زلزال بقوة 7.4 درجة يضرب تشيلي

حارس إسبانيا يغيب لنهاية 2024

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram