طالب عبد العزيز
لعل أقبح ما فعلته أحزاب السلطة في العراق قبل وبعد ربيع 2003 هو أضطرار الاديب الى العمل في الصحافة، هذه المهنة الشاقة التي أجهزت على عشرات المشاريع الشعرية والروائية والفكرية، والتي ذهب لها هؤلاء الحقيقيون جرياً وراء تأمين تصاريف الحياة، وصون كرامة الوجه، واليد من أن تمتد لسرقة الخبز، أو الوقوف الذليل أمام الطبيب والمحامي وضابط المركز ومكاتب السفريات ..
يفرّق محمد زكى عبد القادر الصحفي في جريدة الأخبار المصرية بين الصحفى والأديب بقوله: "الصحفى هو عين القارئ على العالم، والأديب هو عين نفسه.. الصحفى متعجل تسوقه الحوادث، والأديب يفشل إذا لم يحسن الانفعال بالحوادث... غاية النجاح للصحفى أن يسبق الحوادث وغاية النجاح للأديب ألا تفوته دلالتها". وعلى معرفتنا بالعدد الكبير من الادباء الذين عملوا في الصحافة، مثل طه حسين وعباس العقاد والمازني وتوفيق الحكيم واحسان عبدالقدوس همنغواي وماركيز وغيرهم إلا أنهم لم يمكثوا فيها طويلاً، إذ غادروها في وقت مبكر من حياتهم وانصرفوا للأدب بكليتهم.
الصحافة مهنة تعلّم الانضباط نعم، وطرق استلال الاخبار، فيستفيد الروائي من صناعة الخبر وكتابة التقرير والتحقيق الصحفيين، ويتعلم الشاعر منها الاقتصاد في اللغة، وبلوغ المعنى باقصر السبل، وهي جامعة للفنون والآداب والفلسفة .. لكنها في الأخير مهنة، وكل مهنة امتهان، يتوجب على العامل فيها الخضوع لسياسة الصحيفة، ولأوامر رئيس التحرير وهكذا. وتبلغ ذروة خطورتها على الاديب إذا كانت سبيله الوحيد لتأمين لقمة عيشه، عندها تصبح أسوأ المهن وأخطرها عليه، وأكثرها تحطيماً لمشروعه الثقافي.
بعد هزيمة نظام صدام حسين بأشهر عملتُ مع صديقين على تأسيس صحيفة (المنارة) لصاحبها المغفور له د. خلف المنشدي، وفي فورة الحماس الشعبي، والشعور الوطني بــ (التغيير) انصرفتُ الى العمل الصحفي جاداً، طامحاً الى تأسيس شيء ما، وسعيداً بمبلغ الـ 750 دولاراً ، راتبي الشهري، وهو مبلغ كبير آنذاك، مكنني من العيش في بحبوحة، لا اغالي إذا قلتُ بأنني ما كنت لأحلم بها، القضية التي دفعت بي لأكون واحداً من الذين سعوا بكل جهدهم لإنجاح مشروع الجريدة، وفي تقديم الجانب المشرق من الحياة العراقية، من خلال السعي لخلق ثقافة مجتمعية وطنية ورصينة ليس أقلها الوقوف القوي بوجه آلة التخلف والخراب والعسكرة.. لكنني وجدتُ نفسي خارج مشروعي الشخصي كشاعر.
سافرتُ الى دول كثيرة، عربية وأوربية، مشاركاً في دورات صحفية، وجلست طويلاً على المقاعد مصغياً، تلميذاً في درس الصحافة المكتوبة والمسموعة والالكترونية، وتعلمتُ وعرفت وبلغت في ذلك درجاتٍ ودرجات .. لكنني لم اتعلق بالمهنة هذه، التي لولاها لما تمكنتُ مادياً ذات يوم، ولم أرَ ما رأيت من البلدان، بقيت على هامشها، كارهاً مرغماً، حتى أنني لم أنتم لنقابة الصحفيين، وظلت هواجسي كشاعر هي الأقرب الى روحي.
مهنة الادب هي الافقر بين المهن، فلم يحدث أن أمَّن الشعرُ حياة لشاعر في بلادنا، ولم تؤمن الرواية حياة لراو، ولن تؤمن اللوحة حياة لرسام والمسرح لمسرحي والقائمة تطول، لذا، نجدُنا بلا أدب حقيقي، وثقافتنا عرجاء، لأن كل ما نكتبه ونقرأه ونتطلع اليه في ثقافتنا يصطدم بعقبة الحياة، التي لا سبيل لتأمينها بالتامل والشعر والقص والرسم والنقد.