لطفية الدليمي
كتابةُ مقالةٍ أسبوعيةٍ ليست ملء فراغ واجب أو سفسطة كلامية هُلامية كما يظنُّ بعضُ غير الممسوسين بوهج كتابة مقالة ثقافية أسبوعية.
من يَشَأْ أن (يسفسط) فليس في حاجة إلى مقالة أسبوعية يسفسط فيها ماشاء له القول. أمامه منصّات التواصل الاجتماعي بفضائها المفتوح والقابل لكلّ أشكال الكلام. هل يوجد مقياس لمقدار السفسطة من عدمها في المقالة الاسبوعية أو أية مقالة ثقافية؟ أظنُّ أنّ حجم التعليقات التفاعلية الجادّة يصلحُ مقياساً أولياً معقولا وبخاصة عندما تكون تلك التعليقات متسمة ببصمة معرفية واضحة تعكسُ إجتهاد أصحابها وسعيهم للمعرفة الحقيقية غير الاستعراضية. القلّة الجادّة أفضل كثيراً من الكثرة المنقادة بغواية الاستعراض.
أثارت مقالتي الاخيرة (هل يكره المثقفون بعضهم؟) الكثير من التعليقات المثيرة، وهو أمرٌ توقّعته منذ البدء لأسباب أبعد من القيمة المعرفية لمادة الموضوع. موضوعة (التكاره المتثاقف) نمطٌ سلوكي إختبره كثيرون منّا ممّن عملوا في الوسط الثقافي وخبروا تفاصيله الدقيقة وغاصوا في مسالكه الصغيرة. التكاره الثقافي مِثْلُ جرحٍ يأبى التشافي مهما بذلت فيه من جهد وطاقة، وستكون لي وقفة تفصيلية معه في مقالة قادمة.
التعليقات على أية مقالة قد تكون مصدر إثراء واستكشاف لجوانب جديدة من الموضوعة المبحوثة. فقد جاءتعليق أحد الأصدقاء على مقالتي إياها بالصيغة التالية:
" لكنْ سيدة لطفية، كيف يتناسب الفيزيائي العظيم فاينمان الحائز على نوبل مع تسميتك للفيزيائيين بالفلاسفة الطبيعيين؟
فاينمان كان أحد كارهي الفلسفة، وفي كتابه (متعة اكتشاف الأشياء) يسخر بشكل غير مقبول من سبينوزا.. "
تفكّرتُ طويلاً أمام هذا التعليق، وحدستُ منذ البدء أنه يصلح لإثارة أسئلة من نمط (الدرس الفلسفي الكلاسيكي، الدهشة الفلسفية، الفلسفة والطفولة، العقل الاحتسابي والعقل الفلسفي،،،،، إلخ).
أحسبُ أنّ فاينمان لاقى شهرة عظيمة في الاوساط العامة ربما أكثر من أي فيزيائي معاصر. أحبَّ (بل غيتس) محاضراتِه المعروفة (محاضرات فاينمان في الفيزياء) وروّج لها كثيراً وتكفّل بشراء حقوقها ونشرها مجاناً للجميع، وهو من أعلن سابقا أنه لو أتيحت له الفرصة للعودة بالزمن فلن يدرس سوى الفيزياء على يَدَيْ فاينمان.
نعم. لم يحبّ فاينمان الفلسفة يوماً، وهو لم يُخْفِ كرهه لها. قرأت مرّة في أحد الكتب الشائعة عنه أنه قال لإبنه عندما أخبره برغبته في دراسة الفلسفة: ماأبأس اختيارك بنيّ!!
بدأت قصّة الفيزياء الحقيقية مع (ديمقريطس) وجماعته من الفلاسفة الذين يوصفون بالفلاسفة الذرّيين Atomists الذين خالفوا (عالم المُثُل) الافلاطونية. الفيزيائيون المعاصرون هم سليلون خلصاء لديمقريطس؛ فكيف يمكن أن يكره أحدهم الفلسفة؟
أظنّ أنّ واقع الحال ينبؤنا أنّ الفيزيائيين لايكرهون الفلسفة. إنهم لايحبّون شكلاً من أشكالها، أو شخوصاً من شخوصها. أنْ يكره الفيزيائيون الفلسفة بكليتها وبصورة جازمة قاطعة فذلك أمرٌ يبدو عصياً على الفهم وغريباً أشدّ الغرابة.
أذكرُ أوّل مرّة أقرأ فيها عن موضوعة (الفيزياء والفلسفة). كان الكتاب الثاني في سلسلة (الموسوعة الصغيرة) قد نُشِر في أيلول 1977 بعنوان (الفلسفة والفيزياء) للدكتور الراحل (محمّد عبد اللطيف مطلب) الذي كنّا نراه أحياناً ضيفاً في برنامج (العلم للجميع) متحدّثاً في جوانب من الفيزياء النووية عندما يحصل إكتشاف لعنصر جديد. لم أزل أذكر عبارة وردت في ذلك الكتاب منقولة على لسان آينشتاين. تقول العبارة: "من الغريب أن يصبح بعض الفيزيائيين تلاميذ رديئين لأسوأ فلسفة وهي الفلسفة الوضعية المنطقية". معروفٌ عن آينشتاين أنه كان ذا عقل فلسفي، ولطالما قال أنه يؤمن بإله سبينوزا، وتلك كناية رمزية عن غرام الفيزيائي بالقانون الرياضياتي والانتظام والجمال الانيق في عمل الكون؛ لكنّ هذا لم يمنع آينشتاين من إزدراء الفلسفة الوضعية المنطقية لأنها كانت تتقاطع مع توجهاته المفاهيمية. الامر لايخلو من مزاج شخصي حتى في العلم، وسنكون واهمين كثيراً لو إفترضنا الموضوعية الكاملة لدى العلماء.
تواصلت رغبتي المتعاظمة – وأحسبُ أنّ كثيرين يشاركونني إياها - في قراءة الادبيات الخاصة بالفلسفة والفيزياء منذ أن قرأتُ كتاب الموسوعة الصغيرة ذاك. من عادتي قبل البدء بقراءة أيّ كتاب أن القي نظرة على محتوياته؛ فقد يجذبني عنوان أحد الفصول أكثر من سواه فأقرأه أوّلاً. هذا ماحصل لدى قراءتي كتاب (العالَمُ الذي صنعته الفلسفة) الذي نشرته دار المدى حديثاً. هذا الكتاب مصنّفٌ فلسفي رائع بكلّ المقاييس والاعتبارات، وهو مكتوب بكيفية حديثة تجعلك ترى الاثر الفلسفي في صناعة العالم مرئياً على الارض وليس محلقاً في التخوم البعيدة غير المرئية. كان الفصل الخاص بالفلسفة والفيزياء هو أول فصل قرأته في الكتاب، ثمّ قرأتُ الكتاب الرائع بأكمله. من البديهي أن نتساءل: إذا كنتُ أنا وكثرةُ من نظرائي مسحورين بهذه العلاقة (العضوية) التي تربط الفلسفة بالفيزياء؛ فكيف تصبح الفلسفة موضوعاً مكروهاً بالنسبة لبعض أشهر الفيزيائيين ومنهم فاينمان؟
المقايسة الجامدة والنظرة النمطية لن تنفعنا أبداً. قد نتصوّرُ أنّ فاينمان (وهو الحاصل على نوبل الفيزياء عام 1965) هو عقل إحتسابي computational جبّار، وهذا أمرٌ صحيح تماماً؛ لكنه لايعني تفوّقه في كل شيء. ربما لو وضعنا فاينمان قبالة طالب فلسفة حاذق في مناظرة فلسفية لظهر فاينمان شخصية خرقاء، وهو نفسه لاينكرُ هذا. هذا لن يعني بالطبع أنّ كلّ عقل إحتسابي هو نقيض طبيعي للعقل الفلسفي. أمثلة كثيرة تنقض هذا. لو جرّبنا قراءة كتاب (العقل والمادة) أو كتاب (ماهي الحياة؟: الجوانب الفيزيائية للخلية الحية) للفيزيائي الحاصل على نوبل (إرفين شرودنغر)، مبتدع مثال القطّة الشهير، لتملّكنا العجب من هذا العقل الفلسفي الذي لولا معرفتنا بسجلّه التاريخي لحسبناه أحد عظماء فلاسفة الاغريق.
لكلّ منّا ترسيمته الشخصية ومزاياه الذهنية المتمايزة عن سواه؟ أحبَّ فاينمان – مثلاً – تفكيك أجهزة الراديو والعبث بها، وكان يحب فتح الخزائن المقفلة (القاصات) بعد إكتشاف الارقام الشفرية السرية لها، وله في هذا الشأن روايات طريفة تروى عنه عندما كان يعمل في (مشروع مانهاتن) لصناعة القنبلة الذرية في الثلاث سنوات الاخيرة من الحرب العالمية الثانية. يمكن أن نقرأ عن تفاصيل طريفة كثيرة عن حياة فاينمان في كتاب ذي عنوان لافت (أنت تمزح بالتأكيد سيّد فاينمان Surely You are Joking, Mr. Feynman)، وهو مترجم إلى العربية.
لماذا لم يحبّ فاينمان الفلسفة؟ لاأعرف، وهو لم يصرّحْ بهذه الاسباب. ربما كان السبب تجربة تعليمية سيئة على يد أستاذ أساء للفلسفة وفشل في الكشف عن جمالها وأهميتها الجوهرية في صناعة العقل النقدي، وربما لم يصطبر فاينمان على القراءات الفلسفية المطوّلة وفضّل عليها قضاء الوقت عازفاً على طبول (البانغو)!!.
قد يكون (أوبنهايمر) مثالاً على الضد النوعي لفاينمان. كان أوبنهايمر أحد أعاظم العقول الفيزيائية، وعمل مديراً علمياً لمشروع مانهاتن الذي كان فاينمان أحد العلماء الموظّفين فيه؛ لكنّ أوبنهايمر كان عاشقاً للفلسفة والثقافات واللغات المشرقية.
سيّد فاينمان: ليتك كتبتَ عن الاسباب التي نأت بك عن الفلسفة حتى يتعلّم منها صانعو (سياسات المناهج الدراسية) درساً مفيداً؛ لكنّ أغلبنا سيظلّ يحب الفلسفة ولن يتخلّى عن محبتها من أجلك.