اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناطر: أنا والكلابُ وأمُّ البُروم

قناطر: أنا والكلابُ وأمُّ البُروم

نشر في: 30 سبتمبر, 2023: 10:56 م

طالب عبد العزيز

كلُّ الذين أسهر معهم، وأقاسمهم الخمرة والليل والخطى الوئيدة يتركونني ثملاً، ويتعجلون الخطى باتجاه الشمال، شمال المدينة، الذي يزدحم بالمارة، والمركبات، وتنشغلُ سماؤه بالمباني العالية. فأنا، الوحيد بينهم الذي ينحدر جنوباً، أجعلُ غابة النخل مقتبلاً وأمضي. كان جمال مصطفى معي، قبل مغادرته البلاد، نهاية سبعينات القرن الماضي، لذا فانا "وحيدٌ من الخلان"، في الساعة المتأخرة هذه، قلتُ لقاعة التربية ومرقد عبد الله بن عليّ كونا خلفي، ولم تعد خطاي تنتظم على الرصيف.

اقول لابني: اتبعني بمركبتك البيضاء، انْ وجدتني على الطريق ستعرفني، قميصي أحمر، واحمل كتاباً، وأترنحُ كلما واتتني فكرة عن الشعر والموت، إن صادفك أحدٌ على هذه: فقل هذا أبي، إذ لا احد يتعتعه السُّكر أخرة الليل، في الوهاد التي تنحدر جنوباً سواي. وإنْ صرتَ حَفيّاً بي ستسمعني أقول:" من لا يحمل كتاباً اخر الليل يضل الطريق، من لا تنبحه الكلابُ بام البروم ليس انا، من لا يكتفي من الخمرة بزجاجة واحدة انا، من تحمله قدماه الى الرصيف ولا تنزله منه سالماً انا، من لا يوقفه أحدٌ بين الخورة ومناوي باشا أنا، ومن يصل الجسر الايطالي بالمستشفى التعليمي، ولا يتجه يمينا أنا، من يقرأ كل اليافطات ولا يبول خلف شجرة، ولا يستوقفه شعار حزبيٍّ أنا، من يحدِّث نفسه ولا يجيب عنها انا، وهذه الطريق أعرفها، نصفها خطى، ونصفها أعمدة، وكلّها كلاب وعلب بيرة فارغة.

هذا الذي يعبر الجسر سائل العينين، ويحاول أن يكون وحيداً، فتبتعدُ عنه الاشجار وعلامات المرور، الذي يتوقف لينزف قطرة كبرياء، وينحني لكي يتذكرَ خطوةً، مفردةً كانت له، بين الرصيف وماكنة عدِّ النقود، أعرفه. امرأةٌ تُؤمَلُ بانتظاره عائداً كلَّ يوم، لكنه لا يقفُ ولا ينتظر، مصطبة في الحديقة تنتظره، يضحك كلما فتح الحارسُ صنبور الماء. ورق القيقب وعلب الماء الفارغة تعدو خلفه، ومن بين فروج أصابعه يتصبب ضجر كثير. لست أنا، من يأخذ بيده الى الباب، هويشير الى المغيب فتشرق الشمس والى مشرقها فتغيب، كانت النجوم بعض من يسبقه الى السرير، أما الذين سألوا عنه فقد تفرقوا في الاجوبة، ونام عنهم عشب كثير، مازلتُ التحفُ بعضه.

امشي، لأنني أعلم بأنني سأمسي عاجزاً عن المشي ذات يوم، لهذا، أريدُ أن اضع قدمي على كلِّ ذرة رمل، اقرأ يافطات المباني، لأنني اعلم بأنَّ لغاتٍ منها ستمُحى، وسيغمُّ عليَّ من حروفها الكثير، وهناك ما لن تقع عيني عليه من المصابيح. المباني لن تظل على ماهي عليه، كذلك تكون النساء، ولن تقف الاشجارُ على الرصيف طويلاً بانتظاري، سيأتي من يقتلعها، ومن لن يعثر على أصابعي في جذعها، هذه التي تتنكر لي أريد أنْ اعانقها، وتلك التي ستشيح بوجهها أريد أنْ أمنحها الوقت لإبتسامة أخرى. ما زال ابني يتعقّبني بمركبته البيضاء، وأنا أتفحص الالوان والارقام والمصابيح، أقول له تأخرَ إن شئت، ولا أعني سأمي بطول الطريق، أقول إلحق بي، ولا أعني سعادتي بوصوله. هناك ما لم يكمل فهمه بعد، سعادتي بتأخره، وضجري من وصوله.

لا يرى الشاعرُ صلاح ستيتيه في الشعر جَنَّةً، الشعرُ عنده استعارٌ، بفعل ظُلمة الحياة ومصاعبها وآلامها، هو الذي يضجرُ من كلمة (نجاح) فيسمّي حضورَ الشاعر اختباراً. ويقول صديقي زكريا محمد: ".. وتضعنا أمُّنا الحياةُ مثل عِدْلَينِ من بطّيخٍ على ظهرها، البطيخ يتساقط على الميلين ويتكسر" ياه، ما أصدق الشعراء، وما أكذب الحياة!!. .

وأقول: تعال أيها الخريف، عندي رعبٌ كثير، ومثلما تجرِّدُ الاغصانَ جرّدني منه، جرّدني أرجوك. وعندي خجلٌ من فقر أبي، نصف قرن وأنا أحمله على ظهري، خذه عنّي، أتوسلُ اليك، وعندي كلمات غضب كثيرة، اقلعها من لساني، خلصني من صديد الكلمات تلك، وتعال ايّها الخريف. كان صيف الاجوبة طويلاً، اسقط جمرته في مكان بعيد إن استطعت، أدخلْ يدك الطولى في قفطان الشتاء، وقف على شَعْري ولو بغيمة صغيرة، وإذا طرقت الباب، أطرقه بحمق، كأنك مع امراة جميلة، ستجدني عائداً من النخل، من الفيافي الخضر تلك، وإن التوى كاحلي، ساسقط ببركة الضوء، ولتنبح قصائدي كلابُ أمِّ البرومِ حتى الصباح.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram