لطفية الدليمي
قد تبدو مقالتي هذه ضدّاً نوعياً لمقالة الاسبوع الماضي (سيّد فاينمان: لماذا تكره الفلسفة؟). لم أتقصّد أبداً أن تكون مقالتي الراهنة مصمّمة وفق مقاسات الضد النوعي. الشخصيتان الحاضرتان في المقالتين فيزيائيان ببصمة عالمية شاخصة لكلّ منهما، ومتماثلان في الامكانيات حتى لكأنّ أحدهما توأمُ الآخر.
قد يكون فاينمان أكثر ذِكْراً وأوسع انتشاراً بين أوساط القارئين ربما بسبب نيله جائزة نوبل، وربما أيضاً بسبب شخصيته المرحة التي إنطبعت بها محاضراته واسعة الانتشار. الضدّية النوعية تكمنُ في أنّ فاينمان فيزيائي كره الفلسفة؛ أما فيزيائيّنا الجديد فيعشق الفلسفة.
أجملُ الوقائع التي يمكنُ أن تحصل لنا هي تلك التي تأتينا على غير توقّع ومن غير انتظار. هذه الخاصية (السرنديبية) كنتُ قرأتُ عنها أوّل مرّة في مقالة كتبها الراحل طيب الذكر وبديع البيان(الدكتور أحمد زكي) في مجلة (العربي) الكويتية، تناول فيها كشوفاتٍ علمية صارت مآثر شاخصة لمكتشفيها مثل قصّة المضاد الحيوي (البنسلين)؛ لكنها جاءت في لحظة سرنديبية غير متوقّعة. هي غير متوقّعة للعقول غير المدرّبة؛ لكنّ العقول المدرّبة والمعزّزة بقوة البصيرة والمساءلة لن تفوّت أية لحظة كشف غير مسبوقة. لاشيء يقترن بالجدّة والرفعة يأتي بالمجّان في هذه الحياة.
أقولُ دوماً أنّ وسائل التواصل الاجتماعي (وكلّ وسائط المعرفة الاخرى) تحوي لآلئ مثلما قد تحوي خشباً نخره السوس، وكلّ عقل ينجذب إلى نظائره. مَنْ يبتغِ المعرفة الحقيقية فستقوده حواسه إليها إنقياداً قد يبدو مسيّراً بقوة ميتافيزيقية، ومن يبتغِ غيرها فليس شاقاً عليه العثورُ على مبتغاه. أرضُ وسائل التواصل الاجتماعي حافلة بكلّ ما تشتهيه الاعين وتطيب له النفوس.
كنتُ قبل بضعة أيامٍ أطالعُ مقالة بين مقالات كثيرة إعتاد الدكتور (تحسين الشيخلي) أن يتناول فيها موضوعات علمية وتقنية وفلسفية حيوية مستجدّة. كانت المقالة تذكرة بكتاب عنوانه (ماالذي تأسّست الجامعات لأجله What Are Universities For ?) ألّفه البروفسور ستيفان كولّيني Stefan Collini، مع وعد من الشيخلي بعرض مسهب للكتاب في أيام قادمة. عندما قرأتُ إسم كولّيني دقّ جرس إنذار في ذاكرتي. هذا الاسم ليس بغريب عني أبداً؛ لكن يبدو أن تزاحم الاسماء في ذاكرتي أضاع ملامحه لديّ. حدّثتُ نفسي: لابأس، فلأبحثْ عن الاسم. لم يستغرق الامر سوى دقائق حتى إكتشفتُ أنّ كوليني هو أستاذ في مادة (التاريخ الفكري والادب الانكليزي) بجامعة كامبردج، وأنه محرّر سلسلة Canto Classics الشهيرة التي تعيد فيها الجامعة نشر كتب مهمّة كانت الجامعة قد نشرتها سابقاً مع إضافة مقدّمة مسهبة في الطبعات الجديدة منها يكتبها كولّيني. عرفت أنّ أحد كتب هذه السلسلة هو كتاب (الثقافتان) للورد سي. بي. سنو، وهنا تكشّفت الامور لي. سبق لي أن ترجمتُ كتاب (الثقافتان) وصدر عن دار المدى؛ لذا بدأت ظلمة المجهول تتلاشى وسط ضوء المعرفة.
أحبُّ كثيراً المشتغلين بموضوعات تاريخ الافكار (أو التاريخ الفكري Intellectual History) كما يسمّى في العادة، وراقت لي سيرة كولّيني فمضيتُ أبحث في كتبه المنشورة. كان أحد الكتب - التي أبانت لي كلّ المجهول – بعنوان (الثقافتان: إعادة إستكشاف The Two Cultures Revisited)، وهو حوارٌ مطوّلٌ مع كوليني عقده هوارد برتون Howard Burton. دفعني الفضول للبحث عن هوارد برتون: من يكون؟ ولماذا يبحث في وضع (الثقافتان) بعد ستين سنة من نشر اللورد سنو محاضرته الشهيرة في جامعة كامبردج.
قد يتوقّعُ المرء كإستنتاج سريع مسبّق أن يكون برتون على شاكلة كولّيني: رجلاً يعنى بالفلسفة أو التاريخ أو أحد المباحث في الانسانيات أو العلوم الاجتماعية. تخيّلوا كم كانت دهشتي عظيمة عندما عرفتُ أنّ الرجل حاصلٌ على شهادة الدكتوراه PH.D في الفيزياء النظرية، والماجستير في الفلسفة!!. مثل هذه التعشيقات المعرفية ممكنة في الجامعات الغربية وليست شيئاً شاذاً أبداً؛ لكنّ الغرابة الحقيقية تكمنُ في أنّ برتون نشر حواره مع كوليني في سياق سلسلة من حوارات مماثلة مع شخصيات علمية وفلسفية وتاريخية لها بصمتها المميزة، وقد أطلق على هذه السلسلة توصيف Ideas Roadshow. الغرابة الأعظم أنه نشر في هذه السلسة مائة كتاب، ثم أتبعها بسلسلة من عشرين كتاباً كلّ منها سلسلة متتابعة في موضوع خاص بعينه. جهد ملحمي حقيقي من غير شك.
إختار برتون هندسة سياقية محدّدة لكلّ واحد من كتبه الحوارية: أن لايتجاوز السبعين صفحة، وأن يبدأ بمقدمة توجز التضاريس المفاهيمية والتاريخية للمادة قيد البحث، وأن تتوزّع المادة الحوارية على فصول قصيرة يختم كلّاً منها بسؤالين يرميان لتحفيز الحراك الفكري لدى القارئ. أمّا لو تساءلنا بشأن المواد التي تناولتها الحوارات فأقول أنها قارة فكرية لاحدود لها، وهاكم بعضاً من عناوين الكتب: علمُ المشاعر، صناعة عالمنا: نظرة طائر محلّق، إمتحانُ الهلوسات السمعية، الدين والثقافة: حكاية مؤرّخ، عن الكذب في السياسة، مساءلة الحرب الاهلية، البيولوجيا في مبادئها الاولى، الجمهورية الابيقورية، فلسفة الدماغ، الارتقاء الذهني برفقة سبينوزا، دفعُ الحدود قُدُماً، إستطابة الفلسفة التحليلية، البحث في الذكاء، إستكشاف التوحّد،،،،، ، إلى آخر العناوين المائة.
سيكون أمراً منطقياً وطبيعياً للغاية لو تساءلنا: لماذا إذن بذل برتون مشقات كبرى حتى حصل على دكتوراه الفيزياء النظرية ونحنُ نعرفُ أنّ الفيزياء أحد أشقّ الموضوعات الدراسية ولن ينجح فيها سوى من إمتلك شغفاً وعزماً أكثر من الحدود المطلوبة في الدراسات الاخرى؟ يبدو لي أنّ الغربيين لايحاكمون الامور بمنطق (الصح / الخطأ) الصلب. إحصلْ على دكتوراه في الرياضيات ثمّ إعمل في إنتاج برامج تلفازية (مثلما عمل برتون). لاضير في هذا. إحصلْ على الماجستير في الفلسفة ثمّ إعمل أي عمل يتفق مع ماتحب. ليست هناك من خريطة إلهية مسبقة صُنِعت من أجلنا لكي نندفع في مسالكها المعدّة لنا. ثمّ أنّ برتون لم يترك الفيزياء. تخيّلوا أنّه عمل مديراً تنفيذياً لمركز بيريميتر للفيزياء النظرية في كندا عند بدء تأسيسه عام 2004، وقد حكى عن تجربته المميزة في تأسيس هذا المركز بكتاب نشره عام 2021 عنوانه المبادئ الاولى: تأسيس معهد بيريميتر First Principles: Building Perimeter Institute.
لو كان لي الخيار بين فاينمان وبرتون لاخترتُ برتون. شخصٌ يعمل بهدوء ومن غير ضجيج وبعيد عن الاستهلاك اليومي - أو شبه اليومي - في المواد الصحافية سيكون دوماً أحد خياراتي المستحبّة بدلاً من الاسماء التي إستهلكتها ماكنة النشر العملاقة حتى كدنا نشعرُ أنّها ذات صفات فوق – بشرية. المال طبعاً هو الدافع الاوّل لدور النشر.
كم أحبُّ هذه السياحات (السرنديبية) التي أنطلقُ فيها جوّالة حرّة في الفضاء الالكتروني مبتدئة بإسم أو عنوان كتاب أو واقعة صغيرة محدّدة لكنها غائمة وغير مشخّصة، ثمّ يقودني بحثي إلى إكتشافات مثيرة أحبّها.
حقاً إنّ أجملَ الوقائع التي يمكنُ أن تحصل لنا هي تلك التي تأتينا على غير توقّع ومن غير انتظار. هذا الترحال السرنديبي - المدفوع بقوة الدهشة وحدها مقترنة بالتوقّع غير المشخّص – تجربة ثرية أتمنّى أن نختبرها جميعاً بين حين وآخر في هذه الحياة.