حيدر المحسن
هل يمرّ الزمن سريعا بهذه الصورة؟ مضى أربعون يوما والشّاعر علي عيدان عبد الله غائبٌ عنّا، وإلى الأبد. هنالك أحداث تجري بصورة مستمرّة ودائمة وثابتة. يعيش الإنسان، ثم يموت، وهذان الفعلان لحظتان في حلم، وبالنّسبة إلى الشّاعر فإنهما تختصران عصرا بأكمله.
أتخيّلُ الغرفة التي قَدِمَ فيها علي عيدان إلى الوجود، وتلك التي شهدت ساعة احتضاره. هل يمكن تشبيه الأولى بالمكان الذي اكتمل فيه شروق الشّمس، والأخرى غروبها. ثم نتكهّن بعد ذلك طفولة الشّاعر وصباه، كائنٌ يعيش وحيدا ومعزولا عن البقيّة، مستغرقا في النّظر إلى داخله، ومحاولا الإمساكَ بوحدته الذّاتيّة، فهي البوّابة التي يرى من خلالها الوجود. ثم يدمن الشّاعر هذه العزلة شبه الكاملة، ويظهر للنّاس مثل طيف قادم من الماضي أو المستقبل القصيّ، حتى أن حياته تبدو مثل خرافة، لكنّها خرافة المعنى وليس الشّكل، فإنّك تراه من عامّة النّاس، ومع هذا فهو بعيد عنهم بُعد كوكب نبتون عن الشّمس.
هل هذه أُحجية؟
أبدا، بل هو شرح توضيحيّ لطريقة عيش صديقي وشاعر مدينتي علي عيدان عبد الله، وكان نذر حياته في سبيل تحذير الآخرين من حالة انعدام الأمان التي يعيشونها، تتبعهم شرذمة من الظّلال، تتعقّبهم وتطاردهم، وغدت الأرض بسببهم غابة صارمة وكثيفة ومريبة، ولا سبيل للخروج، ولا مفرّ.
أحد تعاريف الشّعر أنه لغة اللّغة، وحياة الشّاعر على هذا الأساس تكون حياة الحياة. مرّ الشاعر في هذه الرحلة سريعا، وخرج منها جميلا مثل ظبي الفلاة. من ديوانه (أطياف أنكيدو) أقرأ لكم:
"أجثو أمام الربّ
فمن يريد أن يصفني... فغزالةٌ
عبرتْ توّا
كثيّبا من نار"
رأيتُه أوّل مرّة في ليل صيفيّ في مدينتنا. كان يسير في الشّارع يستره الظّلام، وتكشفه لي مصابيح الشّارع كلّما غمرته بضوئها الوارف. كان طويلا ونحيفا، شعره أسود لامع وسحنته شديدة السمرة. تبدّى لي مثل تمثال يتنقّل على الأرض لشبح قادم من الماضي. لم أقترب منه أو أكلّمه، واكتفيتُ بأن أتشرّب من ومض حضوره، وأتركه يتسرّب إلى داخل روحي. أردتُ للعلاقة بيننا أن تكون مثلما في الطّبيعة، شجرة تعيش قرب شجرة، فإن اقتربتا أكثر تشابكت الأغصان واختلط الثّمر. وبقيت هذه المسافة تفصل بيننا حتى بعد أن تعارفنا، وصرنا صديقَين، وإلى النهاية.
*
"بريئون كفرائس الحيوان،
قساة كالمُدى"
بهذه الصورة التي تجمع أوسع معنى للاختلاف، يصفُ بورخيس المغول الذين أبادوا الشّعوب وهدموا المدن. وهذه ليست مسألة معقّدة. المغول هم المغول، والمُدى هي ذات الآلات الجارحة، حتى المدفونة تحت الأرض منذ عقود. فأين هي المشكلة؟
المغول هم نحن في ساعة الهياج والغضب. يولد المقاتل المغولي معنا ولا يموت، ونرثه للوجود بصورة أولاد وأحفاد. تكرّر المشهد الذي رسمه بورخيس أمامي في مقبرة وادي السلام، زرتها بمناسبة أربعينيّة الشّاعر، وكان البشر تحت الأرض بريئين كفرائس الحيوان، وفوق الأرض قُساةً وحادّينَ كالسيوف. أَنَّى التفتَّ بوجهك ترى شجارا بين اثنين من الزّوّار إلى المقبرة، أو بين ثلاثة منهم، وفي سيّارة الأجرة التي تقلّك ذاهبا وآيبا هنالك معركة بين المسافرين.
الموتى المدفونون بريئون كفرائس... والبشر الأحياء يرفع كلّ منهم خنجره، وعندما يستنفدون قدرتهم على ارتكاب الشّرّ، وطاقتهم من الدّهاء في توجيهه، يعودون أبرياء، ولكن هذه المرّة تحت التّراب. بين حدّ البراءة وحدود القتل، هل هناك من يُعيد التّوازن إلى هذه المعادلة؟
هي امرأة توزّع على المغول الذين يسكنوننا تفاحا...
في مقبرة النّجف -رملة علي- عدد القبور أكثر من ذرّات الرّمل في الأرض، ووقفت امرأة توزّع الطّعام -تفاحة- على المارّة، بالقرب من قبر ابنها، وتتوسّل إليهم أن يشاركوها الطّعامَ.
الميّتُ يُدفنُ تحت التراب
والحيّ يذهب إلى الوليمة
وليمة الشّاعر تفّاحة، لأنه جميل وبريء مثل أيّل. تقضي هذه الثّمرة على المغول فينا، وتُدخلنا الجّنّة التي أخرجنا إبليس منها. الحياةُ تستمرّ والغزالة باقية، والوليمة قائمة، وحياة الشاعر وموته أصبحا رمزين لزماننا، ولكلّ زمان. مبارك لك يا صديقي هذه الرّفعة في دار القرار...
جميع التعليقات 1
عبد الكريم البندر
كلماتك جميلة كجمال روحك....نابعة من القلب....تنادي عبر الزمان....تنشر عطر المحبة....للشاعر الإنسان....علي عيدان.....