طالب عبد العزيز
لا يعاني الافرادُ في الجماعات الكبيرة، عرقيةً، دينية، طائفية، ثقافية.. ما يعانيه أقرانهم في الجماعات الصغيرة، في مجتمع لا تعمل السياسة فيه على وفق مبدأ المواطنة والشعور الانساني المشترك.هناك غربة لا يستشعرها ولا يتحسسها إلا من كابدها واكتوى بنارها، ولو اقتربنا من أرواح هؤلاء لرأينا الهول.
القسوة أنْ تقشط الغربةُ جسدك في المكان، المشترك، الذي لا سلطة فيه أقوى من سلطة الخلق الاول، ولا تفوّق فيه إلا بالمواطنة والانتماء. في طفولتي، استقدم أبي عمالاً يبنون بيتنا، بينهم رجلٌ من أصول زنجيةً، وكنتُ أسمع أبي في حديثه عن مراحل البناء يقول: وفلان (العبد) في اشارة للرجل ذاك، مع ما يذكرُ من الأسماء. ولأنني لم افقه المعنى القاسي للمفردة هذه، وفي مجلس مع رهط من الصبيان، بيننا ابن الرجل، سميت العاملين في بناء بيتنا وكررت لفظة ابي(فلان العبد)، لم يحدث أنْ عقَّبَ الصبيُّ بشيء، بل لم تثره اللفظة بشيء، ربما استمرأها مع ما استمرأ من حياة، لكنني، حين كبرتُ صرتُ أعي قسوة المفردة هذه، ووقعها الكريه في النفس. الآن، وقد انقضت ستون عاماً ما زلت أنوء بوزرها.
وفي الحرب، كنتُ ضمن مجموعةٍ، بيننا جندي مسيحي اسمه سركيس وآخر مسلم متشددٌ جداً، سأسميه عبد الله، وأشهد انهما كانا صديقين طيبين. لكنَّ عبد الله لا يأكل معنا في قصاع الرز باللحم والادام، إنما بإناء صغير، من الخزف الصيني، جلبه من البيت، في تحوّط واضح من وجود شبه(نجاسة) بأحدنا، نحن المسلمين، فضلاً عن وجود سركيس معنا، الذي أدرك باكراً نفورعبد الله منه، ويقينه بأنه نجسٌ عنده، فلا حلّيةَ في طعامه وشرابه وإنائه، وكانَ بغدادياً مرحاً، فيه دعابة، لذا، صارَ يأخذ اناء عبد الله، ويأكل به امامه، ليستشيط الاخيرُ غضباً، وحين يفرغ سركيس من طعامه لا يجد عبد الله فعلاً إلا أن يعفر الاناء بالتراب ثلاثاً، وبالماء سبعاً، قبل أن يذهب به الى المطبخ. ذات يوم، وكعادته في المرح، اخذ سركيس الاناء، واكل فيه امامه، وكما لم يأكل فيه من قبل، لذا، بلغ عبد الله ما بلغه من الحنق والغضب، لذا، رفع الاناء عالياً وهشَّمه صارخاً به: سركيس أنت نجس، مثل الكلب هذا، وكان يشير الى كلب مرَّ أمامه.
في الكويت، بمدرسة المباركية حضرتُ حفلاً فنياً، التقيت فيه بسيدة من (آل الفرج) وحين سألتها عن علاقتها بالممثل والفنان الكويتي الشهير سعد الفرج قالت: "هو من عبيدنا". لا شك أنَّ السيدة لا تتمتع بالشهرة التي يتمتع بها الفنان الفرج رحمه الله، لكنَّ الجملة مرّت بسلام على لسانها. مازلت أكره جملة(أهل الذِّمّة) ويعلم الله كم يكرهها هؤلاء الذين عاشوا تحت خيمة الحكم الاسلامي! وكم هو حقير ولا إنساني هذا الشعور الذي يعاني منه غير المسلمين، بل أي طعم لحياة يكون فيها انسان تحت ذِمّة انسان آخر؟ على قدر ما في باطن الجملة من رحمة، لكنها كلمة إذلال واضحة. وكيف لطالب جامعي من أصول زنجية قراءة بيت المتنبي الحقير:" لا تشتر العبد إلا والعصا معه.." هذا البيت الشتيمة، الذي وقع تحت سوطه عشرات الآلاف من الطلبة هؤلاء في طول وعرض الدنيا.
على وفق المعادلة هذه يمكننا اقتفاء أثر الاحساس الدامي هذا عند كبّارنا في التاريخ العربي الاسلامي من المعتزلة وإخوان الصفا وأصحاب الرأي والملاحدة والخوارج وبقية الفرق والاقليات، وحجم الضرر الذي لحق بهم؟ وقد علقت أجسادُ بعضهم بعد أنْ طالتهم السيوف. الإحساس هذا ينسحب اليوم على المدنيين ونخب المثقفين، من خارج الكتل الدينية، التي تسيدت المشهد، وامعنت بإقصاء الآخرين. بل، أنا ومنذ سنوات طوال لا أنسبُ لنفسي صفة الشاعر! هناك شعور بتدني ووضاعة الصفة هذه عند العامة
في القرية، حيث ولدتُ كان عدد الشيعة الاصولية، الذين يتبعون مرجعية النجف يفوق عدد الشيعة البحارنة والشيعة الاحسائية، اللذين لا علاقة لهما بها، فهما أقليتان، لم يسلما من تندرُ الأكثرية على طقوس وتوقيتات أعيادهم وصيامهم وإفطارهم وعبادتهم بعامة. وفي البصرة القديمة كانت مهنة نزح المراحيض خصيصة بعض الفقراء من المسيحيين، كنتُ شاهداً على عرباتهم الحوضية التي تجرها الخيول، وهي تجوب الأزقة الضيقة، ولم أرَ أو أسمع عن مسلم امتهنها، أما لماذا؟ فتلك إجابة لا أعدم فيها ربط المهنة بفكرة النجاسة، التي يقرن المسلمون بها أهل ذمتهم. وأني لأقف عاجزاً عن تصور حيرة المرأة، ذات الاصول الزنجية، أمام المرآة، وهي تعاني وتفكر في تسريحة شعرها، متخيلةً شعور زميلاتٍ بيضاوات لها من غير الزنجيات، ترى، ما هي فكرتها عن الله؟
كيف نفهم الرقص والغناء في جسد الغجري، ولماذا يذهب الزنجيُّ الى الفكاهة، حتى لتبدو خصيصته الوحيدة؟ وهل الهدوء طبع في حياة البصريِّ، أم وسيلة دفاع؟ وإلى أين يتوجّه المندائي إذا أغلقت الانهار؟ ولماذا يدفن الشيعة الاحسائية موتاهم في كربلاء، دون النجف والكاظمية؟ وماذا تبقى من الزبير ومقبرة الحسن البصري في روح أهل السنة والجماعة؟