اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > المحاكاة الساخرة لآرتور آداموف.. عندما يمتزج الحلم بالواقع

المحاكاة الساخرة لآرتور آداموف.. عندما يمتزج الحلم بالواقع

نشر في: 8 أكتوبر, 2023: 09:44 م

أوس حسن

نشأ التجريب في المسرح في آواخر القرن التاسع عشر على يد الكاتب والمسرحي الفرنسي ألفريد جاري وكان بمثابة حركة ثورية ومجددة في الوقت نفسه، وتحديدا ً في مسرحيته أوبو الملك

التي نسف فيها كل القواعد والأشكال المعروفة في النص المسرحي الكلاسيكي من خلال لغة الجسد والحركات الإيمائية، وإدخال العناصر الغرائبية وغير المألوفة في الأزياء والديكور وطريقة الحوار التي تتسم بالسخرية والفكاهة السوداء في أكثر المواقف الجدية، كما استبدل جاري الإشارة أو الرمز بدلاً من اللغة، محاولا ً بذلك هدم الجدار الفاصل بين الممثلين على خشبة المسرح وبين الجمهور. كان لهذا التجريب الأثر البارز في ظهور حركات ما بعد الحداثة في القرن العشرين كالسوريالية والدادئية ومسرح القسوة عند آنطونان آرتو

أما مصطلح العبث في المسرح فقد ظهر في فترة الخمسينيات وبعد الحرب العالمية الثانية، وهي تسمية أطلقها النقّاد على هذا المسرح بسبب افتقاره للحبكة والعقدة المركزية، وضياع معالم الشخوص والأسماء وتحرره من عنصري الزمان والمكان، وكذلك ما يشوب الأحداث من غموض وانقطاعات وتحلل في البنية اللغوية للنص، فعادة ما نرى الأشياء والأشخاص تائهين ضائعين، يتبادلون الأدوار والحركات في مشاهد تبدو كأنها في حلم.

كان مسرح العبث بمثابة صرخة تمرد على إنهيار الإنسان وقيم الحضارة الغربية بعد الحروب العالمية كذلك ثورة على جميع التقاليد الاجتماعية والنظم التي تقيد حرية الإنسان، ولا ننسى أن رواد الحركة الطليعية في مسرح العبث كصموئيل بيكيت وآرتور آداموف ويوجين يونيسكو، وجان جينيه وجورج شحادة وغيرهم، كانوا قد عاصروا السورياليين والدادئين وكانوا على تماس مباشر مع رواد المذهب الوجودي كسارتر وكامو. ومن هنا شهد الكاتب المسرحي الفرنسي من أصل أرمني آرتور أداموف العصر الذي انبثقت فيه تيارات ما بعد الحداثة في الأدب والفن والمسرح، وعايش السورياليين كإيلوار،و بروتون، وآراغون، وأنطونان آرتو.

كما أن حياته كانت حافلة بالأحداث التي شهدها عصره من إضطرابات وثورات وفوضى فكرية ووجودية في أوروبا، حتى على صعيد حياته الشخصية فقد عانى من التشرد والعزلة والسجن والمنفى، ولم تخل تجاربه العاطفية من علاقات متعددة وشاذة مع النساء وتعاطٍ للمسكرات والمخدرات، إلا أنه لم يكف البحث عن الذات الإنسانية التي انصهرت في لا معقولية العالم وجنونه المتوحش، وكل ذلك كان قد كتبه في مذكراته التي صدرت في كتاب بعنوان" الرجل والطفل".

"كان آداموف يجد في الحياة شيئا ً غريباً ومثيرا ً لا يمكن فهمه، شيئاً يجمع بين النقائض والأضداد، يبني ويهدم بغير منطق أو تفكير، فكل شيء لا يدل على شيء ولا يعني شيئا ً

لذلك فالتقدير الصحيح للوجود لا يمكن أن ينحسر في حركته، بل في موته. والوجود لا يمكن أن يكون إلا مسخرة كبرى وعالما ً مليئا ً بالرعب والفجيعة على حد تعبير آداموف.

كتب آداموف عن عزلة الإنسان في العالم، وعن الفرد الآوروبي الذي تمزقه الآلام والعذابات

لذلك تمرد آداموف على المنطق والعقلانية، وكان يرى أن عالمنا المادي والمحسوس هو عالم غير حقيقي لا شيء ينتصر فيه سوى الشر، ولا شيء أكثر انسحاقا ً وعذابا ً من الإنسان، ومن هنا اتجه آداموف إلى عالم الأحلام الذي يوحد بين العالمين المرئي واللامرئي، وقد جسد هذا العالم في نصوصه المسرحية، حيث تستمر مسرحياته في حلم كبير، فتصبح الحركات ميكانيكية خالية من المعنى، واللغة مفتتة، والاشخاص هائمون في متاهة كأنهم ارواح خفيفة أو أشباح خارج الزمان والمكان، وهذا يدل على الانفصال الفاجع عن الحياة، لترتدي الحياة برمتها ثوب الحلم الذي لا بداية له ولا نهاية.

ولعل هذا ما تجسده مسرحية المحاكاة الساخرة لآداموف والتي تم عرضها عام 1952

فالاشخاص والأجواء، والأحداث جميعها تحيلنا وتدفعنا إلى الإعتقاد انها تدور في حلم يحيط به الجو الرمادي، والأمكنة الشاحبة نصف المضاءة، فلا توجد حبكة ولا عقدة، بل مجرد شخصيات تعيش في عبث ميتافيزيقي ولا تصل إلى غاية أو هدف، بل أن بعض التصرفات وطريقة الكلام تجري بطريقة غرائبية وغير متصلة ببعضها.

إن مدير الجريدة في مسرحية المحاكاة الساخرة في نفس المشهد يتحول إلى مدير وكالة، وفي مشهد آخر يتحول إلى مدير مرقص ليلي، والصحافي الذي يعمل عنده في بعض المشاهد يصير محامي او حارس سجن، وهكذا تدور المسرحية في جميع المشاهد واللوحات، لنرى نفس الأشخاص بعدة أدوار، وحتى حركة الشخصيات وطريقة تعبيرها في الحوار والمواقف تشبه إلى حد كبير في بعضها بما يتفوه به المصاب بالهذيان أو الغارق في حلم عميق. وهنا تكمن براعة آداموف في ترجمته للرموز الحلمية المبعثرة وإعادة بنائها كلغة فاعلة على أرض الحدث رغم غرابتها ولا معقوليتها.

يقول الموظف للسمسار في أحد حواراته:..

معذرة سيدي كم الساعة الآن؟

السمسار:..عندك ساعة جدارية تماما ً في الواجهة

الموظف (وهو ينظر إليه):..الساعة لا عقارب لها. إن الليل حالك الظلمة بعض الشيء.

الموظف:..حين أكف عن الحركة يهيأ لي إنه لا يعود لي وجود وأنا أمشي

حينئذ يبدأ إيقاع افكاري بالتسارع.آه إنه لا يخرج عن سيطرتي. إنني أطابقه مع كل جسدي.

أما الشخصية (ن)..في المسرحية فهي دليل واضح على اللامبالاة وعدم الاكتراث بالموت المجاني الذي يهدد الإنسان في هذا العالم، فموت إنسان لا معنى له وهو مجرد حادث عرضي أمام التوحش المادي واستلابه لكرامة الإنسان واصالته الوجودية، بل أن الذي يواجه مصيره وحيدا ً بلا معين أو سند ولا يحيا حياة القطيع؛ فإنه يعامل كالنفايات أو القمامة

إن (ن) يتمنى أن يجد شخصا ً يقتله، وهويقول في إحدى حواراته " إنني أستطيع أن أموت"

فالموت هنا يصبح إرادة فاعلة تدخل ضمن إرادة الحياة ونسيج الوجود، فتنتفي عنه صفة العدم واللاوجود، وهذه ليست مجرد سخرية سوداء عند آداموف، بل لافتة احتجاج عريضة ضد الحياة نفسها بكل اقدارها ومآسيها، بكل عبثيتها وتكرارها الممل وفراغها الشاسع الذي يضغط على الإنسان، والتي لا يستطيع أن يراها آداموف إلا مهزلة، لكنها في نفس الوقت ثورة الروح وبركانها الخامد في أعماق الإنسانية.

في المشهد الأخير نرى (ن) ملقى على الأرض وميت، وقد نال مراده وجسد إرادة الموت التي تنتصر على كل شيء، لنرى أن عمال النظافة قاموا بكنسه مع بقية النفايات على الارض.

لا توجد في المسرحية قصة واحدة، ولا مركزية في الحدث، سوى هذه العبارة التي ظل يكررها الجميع في عدة مشاهد وهي:.." كم الساعة الآن؟"

والساعة بلا عقارب أو تمشي بشكل سريع، أو تكون معطلة.

إن الزمن هو العنصر الذي تتحرر منه المسرحية، وهو أساس الألم والعذاب البشري، وهذا ما أراده آداموف أن يحرر الإنسان من الزمن والوجود المادي، فلم يكن له سبيل سوى الولوج إلى الحلم والعوالم اللامرئية الأخرى

إن مسرح آداموف بقدر ما يحوي من عبث وتمرد على الحياة التي تؤطر الإنسان بقوالب عقلانية ولغة مبتذلة مكررة إلا أنه يحاول دائما ً أن يجد طريقاً للخلاص، فهو يتجه إلى بعد روحي ما ورائي، لكنه باطني و تحرري في الوقت نفسه.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

نادٍ كويتي يتعرض لاحتيال كروي في مصر

العثور على 3 جثث لإرهابيين بموقع الضربة الجوية في جبال حمرين

اعتقال أب عنّف ابنته حتى الموت في بغداد

زلزال بقوة 7.4 درجة يضرب تشيلي

حارس إسبانيا يغيب لنهاية 2024

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram