طالب عبد العزيز
مع أنَّ أحداً لا يستطيع الجزم بتحديد الفترة التي تأسست فيها فنون الرقص والغناء في البصرة، وعلى ايدي مَنْ مِنْ سكانها، المختلفين في الاصول والاعراق والالوان، ومن الذين سكنوها قبل وبعد الفتح العربي الاسلامي في 14 للهجرة،
إلا أن الشائع لدى جمهور الباحثين يذهب الى الاعتقاد بأنَّ الفنون هذه هي خصيصة سكان المدينة من الزنوج، الذين تعاظم وجودهم في القرنين الهجريين الثاني والثالث، بعد اتساع رقعة الزراعة والتجارة وحاجة الناس للعمالة، مع تأكيدنا على أنَّ غالبيتهم هم من سكان المدينة الاصليين، بحسب أحمد كمال زكي في كتابه العصور الادبية في البصرة.
لا شكَّ أنَّ فن الهيوة والليوة والسامري والحدّادي وسواها فنون سواحلية، والآلات الموسيقية المستعملة فيها هي افريقية، حملت بالسفن التي اقلتهم من السواحل السوداء تلك، وهي صنيعة اولئك الذين أصابهم الحيف في الحياة، التي لم تكن لتنصفهم، بسبب لون بشرتهم لا غير، ليس في الجنوب العراقي الرطب حسب، إنما في أصقاع كثيرة من العال. هذه الحياة التي لم تجد معادلها الموضوعي إلا في الرقص والغناء. ففي أمريكا القرن التاسع عشر كان العبيد الأفارقة يعملون في حقول القطن بولاية نيوأورليانز ، تحت ظروف إنسانية غاية في القسوة.. حيث لا وقت للتسلية وللمرح، إنما هناك وقت قليل مستقطع للاحتفال في مواسم الحصاد. على الحصيد اليابس كانوا يتجمعون ويرقصون ويتغنون بألحان إفريقية وعلى إيقاع الطبول، وما تعلموه من ترانيم الكنائس فيما بعد. من هنا نشأ نوع جديد من الفن، عرف لاحقًا باسم "موسيقى الجاز".ومثلما ولدت موسيقى الجاز في أمريكا من صرخات السود في حقول القطن الأبيض، ولدت فنون الهيوة والليوة والسامري والحدادي وسواها في حقول الفاكهة والنخيل بالبصرة.
كان المرحوم الفنان، ومدرب الرقص في فرقة البصرة للفنون الشعبية جبار عبود بلال يرى بأنَّ جملة الفنون البصرية إنما خرجت من رحم الُمْكيدْ، في مناطق عديدة من البصرة، مثل الزبير والبصرة القديمة وابو الخصيب والساعي، ويشير الى مكيد الشيخ بشير، وشقيقه ابو حسين في محلة المجيبرة- لم تزال آثار المكيد هذا باقية الى اليوم- قد لا نجد تأكيداً يقطع بأنَّ الفنون هذه كانت قد انتقلت الى مدن الخليج من البصرة، إنما يمكن القول بأنها انتقلت الى المدن تلك مع السفن التي رست على سواحلها محملة بالزنوج الذين دخلوها، أو وُجِدوا فيها منذ ازمنة غابرة، إذا ما علمنا بأنَّ شبه الجزيرة العربية موطنٌ قديم لهم، قبل الاسلام، حيث تتحدث الكتب عن مجتمع مكة مشيرة الى الوجود ذاك.
وبحسب الباحث عبد الله رمضان عيادة فأنَّ ميدان الشيخ بشير وشقيقه ابو حسين الكائن في محلة المجيبرة كان من اشهر ميادين الزنوج في البصرة، ولدى زوجته أم حسيبه فرقة ومكيد للانشاد الديني، يغنى فيه طور السادة والقادري والسامري والخمّاري بالاضافة الى الهيوة والليوة والنوبان، وهناك مكيد بيت ونيكه، بمحلة الصفاة، بالقرب من ساحة الدواليب، ورئيسه الاستاذ عبد الجليل ونيكه، وشيخ طريقتهم هو الشيخ جوهر الممباسي، وفي باب الزبير هناك مكيد الشيخ سعيد منصور الخاص بفن النوبان، وفي الفاو هناك مكيد أم صباح، ومثل ذلك في قرية المحيلة بابي الخصيب، ولن تبارح صورة السيدة ام عزيز بدشداشتها البيضاء، وغترها وعصاها ذاكرتي، فقد كنت أراها ذاهبةً الى مكيدها، بقرية عويسيان عصر كلِّ خميس، من ليلة كلِّ جمعة.
ومثلما كانت الفرق الموسيقية والغنائية في امريكا مدينةً بشكل كبير الى موسيقى شعوب البحر الكاريبي، وجزر ترينيداد وتوباغو وجامايكا بفضل إيقاعها المميز، وبدا ذلك واضحاً في موسيقى الهيب هوب، يمكننا القول بأنَّ فنون الغناء والرقص والموسيقى في البصرة والعراق بعامة مدينةٌ الى تلك اللالئ الداكنة، والى الاكف السوداء، التي قرعت ليل المدينة الراكد، فأضاءت شواطئها وبساتينها وبراريها، ومازالت تضيئه الى اليوم.