لطفية الدليمي
إعتزمتُ قبل نحو عشر سنوات عمل مايشبه خريطة روائية عالمية أتناول فيها حوارات – بمواصفات محدّدة ومنتخبة - مع نخبة من روائيات وروائيي العالم. الديمقراطية الروائية كانت هاجسي الاوّل: بقدر مااستطعتُ أردتُ التنويع والتوغّل في عوالم روائيين وروائيات منّ كلّ جغرافيات الأرض. ظهرت نتيجة هذا الجهد في كتابي (فيزياء الرواية وموسيقى الفلسفة).
الرواية الاسكندنافية كانت لها حصّة في هذا الكتاب، وقد إجتهدتُ حينها في البحث عن أسماء روائية إسكندنافية كان (يون فوسيه Jon Fosse) أحدها. لم أقتنع بأيّ حوار منشور له. جاء بحثي هذا ليشكّل أوّل معرفة لي بهذا الروائي وصانع الدراما المسرحية. لابأس من التنويه هنا أنّ فوسيه أكثر شهرة في العالم ككاتب مسرحي بالمقارنة مع كونه روائياً.
معرفتي الثانية بفوسيه جاءت من باب السيرة. عقب إكمالي كتاب الحوارات (الذي ضمّ مايقاربُ الخمسين حواراً من أصل مائة حوار مفترض أردته في بداية الشروع بالعمل) وجدتُني ميّالة إلى إختيار عدد من السّيَر لروائيين وروائيات على مستوى العالم. وقد كانت اولى اختياراتي السيرة الذاتية الثرية للروائي والفيلسوف كولن ويلسون (حلم غاية ما) التي ظهرت عن دار المدى، و لعلّ بعض القرّاء يذكرون أنّني نشرتُ في صحيفة (المدى) أجزاء متسلسلة – قاربت العشرة – من سيرة المرشّح النوبلي (نغوغي واثيونغو) وكانت بعنوان (أحلامٌ في زمن الحرب: مذكّرات طفولة). للأسف ترجمتُ ثلث هذه المذكّرات ولم أكملها لأسباب كثيرة. ثمّ ترجمتُ سيرة قصيرة لحائزة نوبل (توني موريسون) ونُشرت عن دار (المدى). كانت سيرة فوسيه المعنونة (مشاهد من طفولة Scenes From a Childhood) واحدة من السير الخمس التي إعتزمتُ ترجمتها. بعد قراءتي لعشرين صفحة منها صرفتُ النظر عنها تماماً. أظنني فعلتُ حسناً، ولم أشعرْ أبداً بخيبة أمل حتى بعد أن حصل فوسيه على الجائزة النوبلية العتيدة.
يحارُ المرء في توصيف نمط كتابة فوسيه. أراها أحياناً أقرب لكتابة ذهانية Psychotic Writing حيث تتطاير الافكار كما تشاء. عانى فوسيه من حالة إكتئابية شديدة (ميلانخوليا) وعولج منها، وكان مدمناً للكحول؛ لذا ليس غريباً أن توصف كتابته بأنها كتابة كحولية، أو الادقّ: كتابة تحت تأثير الكحول. حينها سيكتب المرء أي شيء. ستتطاير منه الافكار في كلّ الجهات. لو كنتُ أكتبُ مادة غير مقالة محسوبة عليّ كلماتها لترجمتُ مقطعاً من سيرته الطفولية حتى يتحسّس القارئ ماأعنيه بنمط الكتابة الذهانية.
أنا لستُ صانعة سياسة أدبية أو توجهات نوبلية، ومثلي كثيرون من القرّاء؛ لذا لابأس من طرح الافكار من غير خيفة أو توجّس مسبّق. قناعتي أنّ فوسيه يمثلً نموذجاً قياسياً لمواطن إسكندنافي يعاني رتابة المشهد والرؤية. عندما يعيشُ أحدنا شهوراً عدّة متصلة في بيئة صقيعية يصحّ فيها الوصف (لاأحدٌ يأتي... لاطيفٌ يمرّ) فليس غريباً أن يعاني حالة ذهانية وقتية طارئة. عندما يكتبُ أحد هؤلاء ماذا يجد أمامه؟ سيجد بيئة تحيطها ستائر مغلقة وتدفئة مفرطة. لايوجد تغيير جوهري في المشهدية المرئية أمامه. ماذا نتوقّعُ أن يكتب؟
يوجد في علم النفس السريري مبحث خاص بسايكولوجيا الاجواء الصقيعية. هل نتناسى أنّ من الجلسات العلاجية التقليدية في البيئة الاسكندنافية هو المكوث تحت ضوء قوي مشبع بالاشعة فوق البنفسجية لكي يناظر تأثير ضوء الشمس الطبيعي في دماغ المرء؟
دائماً ماأردّد مع نفسي أنّ أفضل حَسَنة للجنة نوبل الادبية أنها صارت تقصرُ خياراتها في العشر سنوات الاخيرة على أسماء روائية ليست طاغية الشهرة ومايتبعها من مال وصيت أدبي. بالنسبة لي – ولكثيرين معي – توجد أسماء روائية كثيرة تكتب بطريقة أفضل بكثير من فوسيه، وتقدّمُ لنا أفكاراً أعظم ممّا يفعل فوسيه، وتمتّعنا أكثر ممّا يجترحه فوسيه (هل ثمّة متعة في أعماله؟؟)، ولم تحصل على نوبل، وربما لن تحصل عليها أبداً. هل يضيرها هذا؟ أبداً. لن تمتنع مارغريت أتوود عن الترحيب بنوبل الادبية متى مافازت بها؛ لكن ماذا يضيرها عدم الفوز بها وهي قد شبعت مالاً وصيتاً هما بعض استحقاقها الطبيعي؟ لاأراه أمراً حسناً أن تضيف نوبل الادب مالاً على متخم بالمال، أو صيتاً على ذائع الصيت. هذه الفعلة الحسنة تُحسَبُ لها.
يبدو بعضُ القرّاء العرب – ومنهم العراقيون بالطبع - تلاميذ خُلّصاً لمواريث مابعد الحداثة التي صارت أقرب لليبرالية أدبية متفلّتة. أتخيلُ في هذه اللحظة أنّ أحد هؤلاء عندما يقرأ ماكتبته أعلاه سيقول على الفور: وهل تعرفين أنتِ أفضل وأكثر ممّا تعرفه اللجنة النوبلية؟ سأقول: أنا أكتب رأيي وحسب. لاشأن لي بلجنة نوبل؛ لكن هل قرأت هذه اللجنة كلّ الادب العالمي وعرفت كلّ شيء عن كُتّاب العالم أينما كانوا وكيفما كانت خلفياتهم الثقافية والحضارية؟
جائزة نوبل – والادبية منها بشكل خاص – هي 1% إبداع و 99% بالمائة لعبة علاقات عامة على المستوى الدولي. هي أرضُ قتال تُستخدَمُ فيه وسائل البروباغاندا الثقافية الناعمة، ولن تتناسى كبريات شركات النشر شحن قدراتها السنوية في هذا الميدان. المال له سحره وسطوته على الافراد والدول معاً. لاأحد يربح نوبل الادبية متسلّحاً بعُدّته الابداعية الخالصة. هذا وهمٌ كتب عنه الغربيون قبل غيرهم.
أخطرُ مافي جائزة نوبل الادبية هو تكريسها للنسبوية Relativism على الصعيد الابداعي. هل نسينا المدارس الثقافية المتعدّدة التي تكاثرت – مثل الفطر - بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية ثمّ بانت حقيقتها: كانت صنيعة لعبة أممية في سياق الحرب الثقافية الباردة. يرادُ تسويقُ نمطٍ من السخف. مطلوبٌ منك أن ترى (مِبْوَلَة) وتقتنع بأنها فنّ خارق الحداثة يستحقّ ألوف الدولارات (صارت ملايين لاحقاً). إنها ممارساتٌ يرادُ منها تعظيم مناسيب الانتروبيا الذهنية لدى الافراد بغية تهيئتهم ليكونوا ضحايا لسياسات لاحقة.
يسعى بعضنا لتأكيد فرط حداثته فيرى في الآخرين قرّاءً تقليديين كسالى إستمرأوا الاعتياد على نمط أدبي محدّد وليست لهم رغبة أو قدرة على مخالفته أو كسر قواعده، وسيرون في أيّة محاولة كتابية جديدة خرقاً حداثياً ثورياً يستوجبُ المكافأة والتعضيد حتى لو كان تهويمات ذهانية عابرة داخل غرفة فيها ستارة مقفلة ومدفأة تغتذي على جمرات خشبية وإمرأة عجوز شبه نائمة وطفلٌ يفتح الستارة بين حين وآخر ثم يغلقها.
لعلّ (تيري إيغلتون) هو أفضل من كشف عن خطر هذه النسبوية القيمية على الصعيد الابداعي، ولو قرأنا كتابه (الثقافة) سنرى سيلاً من الحقائق الغريبة التي تشيع حتى في أعلى المراكز الاكاديمية البريطانية. سنتساءل حينها: هل من المعقول أن تحصل مثل هذه الامور في دهاليز الجامعات المرموقة؟
لديّ تجربة لك: توجد روايتان مترجمتان منشورتان لفوسيه قبل نيله لنوبل الادب. إخترْ واحدة منهما، أو إذا شئت إنتظر حتى تجود لنا المطابع بأعمال جديدة له لم تُترجمْ من قبلُ. إقرأها. ثمّ إخترْ رواية معاصرة، وحتى نكون موضوعيين بأعظم مايكون إخترْ رواية إسكندنافية، ولتكن نرويجية زيادة في توخّي الدقّة والموضوعية. لتكنْ مثلاً واحدة من روايات (جوستن غاردير) أو (كارل أوفه كناوسغارد). قلْ لي بعدها من هو الافضل لك بين هؤلاء؟
قلْ رأيك، وليقل الآخرون رأيهم. الافضل دوماً أن ننتبه للآراء المتضمّنة تفاصيل تقنية وإبداعية مشخّصة. مكامن الابداع الادبي العالمي لن تأتينا بالمجّان. يجب أن نجتهد لبلوغها، وسنخطئ كثيراً لو تصوّرنا أنها أعطية سنوية تجود بها علينا لجنة نوبل الادبية.
لسنوات عدّة سابقة ظننتُ أنّ لجنة نوبل الادبية تسعى لإقناعنا برؤية ملابس وهمية على جسد الامبراطور العاري. اليوم أنا مقتنعة أنْ ليس من وجود لإمبراطور أصلاً!!