اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > إضاءات في العلمانية

إضاءات في العلمانية

نشر في: 15 أكتوبر, 2023: 11:01 م

شاكركتاب

تتعرض العلمانية الى سوء فهم مركب وضار في آن واحد. سوء الفهم هذا نجده عند مناهضي العلمانية وعند انصارها أيضاً ومعتنقيها على حدٍّ سواء. يظن الكثيرون أن العلمانية تعني فصل الدين عن الدولة وحسب. وفي أحسن الحالات يقولون بالفصل بين الدين وعموم السياسة بما في ذلك الأحزاب والنشاطات والفعاليات الشعبية. الخطل هنا يكمن في عدم إدراك أن العلمانية هي ثقافة وموقف لا أكثر.

وحقيقتها الجوهرية، كما أراها، تكمن في رفض اعتبار الدين معياراً أساسياً للتعامل مع الظواهر الطبيعية وغير الطبيعية، المادية والمعنوية. أما انت فكن مسلماً كما تشاء وكن مسيحيا او يهوديا او ان تعتنق أي دين نشأت في كنفه او اكتسبت القناعات بشأنه نتيجة خيارات عقلية توصلت أنت لها بجهدك الخاص. والدين لا يمكن له في عالمنا المعاصر هذا أن يكون قياساً ولا سبباً في اتخاذ الموقف إزاء ما نواجهه من تحديات كبر حجمها أم صغر، ولا يمكن ان يكون الدين سبباً في تحديد السياسات قصيرة او بعيدة المدى. والعلاقات الشخصية لا تخضع للضوابط الدينية انما للنظم الاجتماعية السائدة في المجتمع المحدد، ولا التأييد للسياسي الفلاني او الحب أو إعجاب المرء بشاعر او بنص أدبي ينبغي أن يخضع للوازع الديني. كما ان الحروب رغم كارثيتها ليست مادة للحوار الديني او التفسير او الرفض او التأييد. هناك قوانين انتخبتها الطبيعة بكل كونها وكواكبها ومجرّاتها ومساراتها بعد مليارات السنين من الحركة والانتقال بين الفشل والصواب.

الثقافة العامة هي الأخرى تتكون وتنهض وتتسع وتتطور او تنتكس وفقا لمسببات داخلية تحكمها صيرورة التطور او الارتداد. الدين نفسه جزءٌ حاسمٌ من مواليد قوانين الثقافة. يسهم في ضبط إيقاع مسيرة تاريخ المجتمع بعلاقاته المتشعبة والمعقدة. والدين بهذا المنحى يمكن جدا ان ينفع لكنه قد يقف في أحيانٍ ضد وحدة المجتمع ويتسبب في خلق الأخاديد العمودية بين ابناء مجتمع معين على عكس الحالة التي يمكن ان يكون فيها الناس متجانسين من حيث العقيدة الدينية فهو عنصر فعال في أية عملية صراع تدور في المجتمع مهما كان حجمها.

وهذا لا يعفي المجتمع من الخضوع لقوانين التطور الاجتماعية والطبيعية التي لا تنتظر أبداً الحكم الديني عليها دعماً أو ارتكاساً. في السياسة هناك مصالح محددة بشكلٍ حاسم ونهائي. تجري عملية النضال من أجلها على يد أبناء وقدوات الشرائح المعنية او نخبها الواعية. هذا النضال ينطلق من ثلاثة أساسات راسخة في العرف السياسي ولا علاقة البتة هنا للفضاء الديني ان يتدخل عدا عما يستمده المؤمنون من عزم وحماس مصدرهما الثقة بالله تعالى وإيمانهم بمساندته لهم في ما يفعلون من خير وصلاح. والأساسات الثلاث الراسخة في الفعل السياسي هي: دراسة الواقع القائم، ومعرفة دقيقة بالواقع الجديد المطلوب الوصول اليه، ثم اساليب (برامج) العمل للوصول الى الواقع المطلوب. يمكن للدين ان يدخل هنا عنصراً مساعداً داعماً لكنه لن يكون حاسماً. وإذا اتسع دوره فستطغي عناصره على بقية المساحات فيلغيها أو يعطّلها وبهذا تخسر العملية التاريخية وعبقريتها الفذَة كثيراً من طاقاتها الفعالة والمنتجة. وهكذا الحال مع بقية محاور الوجود الانساني والمجتمعي والفردي.

الوهم الآخر الذي يرتكب بحق العلمانية ومن قبل ليس فقط مناوئيها بل حتى معتنقيها هو ظنّهم ان العلمانية تعني الإلحاد. وهذا خلط لا متكأ له. قد يصح القول ان كل ملحد هو علماني بالضرورة. لكن ليس هناك ما يبرر الاعتقاد ان كل علماني هو ملحد. أقول قولي هذا وشاخصة أمامي ملاحظتي الاولى التي قدمتها أعلاه حول عدم جواز اعتماد الدين معيارا في فهم الظواهر وتحديد المواقف منها. الإلحاد يعني عدم الاعتراف بوجود إله في هذا الكون. والعلمانية هي كما قلنا عملية الحيلولة دون أن يكون الدين معياراً حاسماً في التعامل مع الظواهر المادية والمعنوية بكل معانيها وتفاصيلها. فقط لا غير. الإلحاد يحق للمؤمنين رفضه والتضادّ معه لأنه يلغي جوهر معتقدهم وأساس منظومتهم الفكرية ووجودها. لكن لا يحق لهم ذلك مع العلمانية بل عليهم التفاوض معها حول حدود المعيارية. معيارية الدين. وأنا هنا لا ابحث عن منطقة وسطى لغرض التوفيق. فالتوفيقية تتنافى مع المبدئية. وصرامة المبادئ لا تدع مجالا للتوفيقية. لكن يجب علينا وبثبات العمل على الحفاظ على السلم الأهلي والمجتمعي رغم الظروف كلها.

العلمانية قد تكون جزءاً من شبكة قناعات فكرية فلسفية وسياسية تتبناها قوى ناشطة وفاعلة. وعلينا ان لا نستبعد ان تكون هذه القوى الناشطة والفاعلة قوى مؤمنة وذات هوية دينية. لكن الإلحاد هو قضية فردية تماما شأنها في ذلك شأن الدين نفسه.

والإلحاد يتشابه أيضا مع الدين في ان ليس له ان يكون معيارا لتحديد المواقف من الظواهر بكل معانيها ولا ينبغي له ذلك. وإذا أردنا التهاون قليلا مع الإلحاد فنقول ان كثيرا من معانيه قد تعرضت هي الاخرى لسوء الفهم أيضا. فمن الفلاسفة الملحدين من ينسف وجود الآلهة تماما (فيورباخ مثلا) ومنهم من ما زال يؤمن بالوسائط بين الرب والكثير من الرموز (الشرك بأنواعه لدى كثير من معتنقي الأديان السماوية الاسلام والمسيحية واليهودية) ومنهم من يؤمن بالتداخل بين الله والكون في كل دقائقه وتفاصيله ويجد أن الربَّ طاقةً خلاقةً تخترم الظواهر والأجسام والكائنات (فلاسفة وحدة الوجود مثل سبينوزا وهيجل وغيرهما). والنوعان الآخران (الشرك ووحدة الوجود) لا يمكن عدهما من الإلحاد بل إن كلاً منهما هو رؤيا في طبيعة ومكانة الرب لا اكثر على الرغم من خطورة الموضوع وجلالة نتائجه. هؤلاء هم أقرب إلى العلمانية في اعتماد الواقعية في السلوك العلمي والعملي. العلمانية كما أفهمها لا ترفض فلسفة الإلحاد كما انها لا تتبناها. وهي بذلك، في ظنّي، تكون أقرب من الناحية العملية الى فلاسفة وحدة الوجود. والتطبيقات العملية على مدى تاريخ العلمانية تثبت ذلك.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

قناطر: من وصايا أبي المحن البصري

العمودالثامن: إنهم يصفقون !!

 علي حسين كان الشاعر الزهاوي معروف بحبه للفكاهة والظرافة، وقد اعتاد أن يأخذ من زوجته صباح كل يوم نقوداً قبل أن يذهب إلى المقهى، ويحرص على أن تكون النقود "خردة" تضعها له الزوجة...
علي حسين

باليت المدى: على أريكة المتحف

 ستار كاووش ساعات النهار تمضي وسط قاعات متحف قصر الفنون في مدينة ليل، وأنا أتنقل بين اللوحات الملونة كمن يتنقل بين حدائق مليئة بالزهور، حتى وصلتُ الى صالة زاخرة بأعمال فناني القرن التاسع...
ستار كاووش

ماذا وراء التعجيل بإعلان " خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!!

د. كاظم المقدادي (3)ميزانية بائسةبعد جهود مضنية، دامت عامين، خصص مجلس الوزراء مبلغاً بائساً لتنفيذ البرنامج الوطني لإزالة التلوث الإشعاعي في عموم البلاد، وقال مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع في اَذار2023 إن وزارة...
د. كاظم المقدادي

السيستاني والقوائم الانتخابية.. ردٌ على افتراء

غالب حسن الشابندر منذ أن بدأت لعبة الديمقراطية في العراق بعد التغيير الحاصل سنة 2003 على يد قوات التحالف الدولي حيث أطيح بديكتاتورية صدام حسين ومكتب سماحة المرجع يؤكد مراراُ وتكراراً إن المرجع مع...
غالب حسن الشابندر
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram