اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > من يومياتي 2

من يومياتي 2

نشر في: 16 أكتوبر, 2023: 09:25 م

زهير الجزائري

الملجأ

في هدأة بين القذيفة والقذيفةً حاولنا توسيع فرص الحياة. بحثنا في العمارة عن زاوية نحشر فيها وسائدنا و شموعنا و الراديوات المحمولة التي تقول لنا ما الذي يحدث فوق، في ذلك العالم الذي نجهله، وماذا يقول القادة الذين يتحكمون بهذا الجحيم الذي يدق علينا السقوف.

على ضوء الأخبار نرسم الخطوط الحمر و فسحات الأمان الشحيحة حولنا. هذه العمارة قاتلة هربت منها صديقتنا بائعة الورد. علينا أن ننتقل للبناية التي تحتمي بها! في البناية الآمنة بقيت الطوابق العليا مكشوفة للقذائف العشوائية. تركنا الغرف المطلة على الشارع وعلى الباحات المكشوفة. نزلنا إلى الملاجئ فلفحتنا رائحة فظيعة؛ غازات وانفاس فاسدة، جلود عرقانة.. كل هذه الروائح ينتجها جسد الإنسان!؟ كيف يتحملها؟! قلصّنا حجومنا و انحشرنا في ملجأ بين جدارين. أكره الملجأ. يذكرني به النحات الإنكليزي (هنري مور). من داخل الملجأ رسم الركام البشري في شكل كتل متراكمة أو صفين متراصين و متقابلين و الرؤوس عالقة بالسقف الذي يحميهم أو يدفنهم. مور رسمهم في حالة جمود بلا افعال. أخالفه التجربة والرؤيا. ففي الملجأ تكثفت حياة، بل حيوات متداخلة ومتقاطعة. كلما تطول الحرب ستكون الملاجئ قدرنا. في الأيام العادية كان هذا الملجأ ورشة خياطة للبدلات الرجالية. الآن اصطفت البدلات معلقة على الجدران..لا أحد ياخذها،لا أحد يحتاجها. في الملجأ نهذر ولا نعرف ما قلنا ولا نرى من يسمعنا. نريد فقط تبديد قلقنا. أعصابنا متوترة ويزيدها صراخ الاطفال توتراً. أحاول أن أصغي لما يقوله من حولي من قصص مبتورة، فتقطعني أصوات الانفجارات الأعلى صوتا والأكثر فصاحة. انها تعنينا كأفراد وجمع. عيناي تتجولان حولي وفي داخلي: بقع متفرقة من ضوء شاحب على ضوئها رأيت هذا (العليم) المنكب على الراديو في يده يتسمع الأخبار ويفسرها للمستمعين حوله:

-ولا خبر عن لبنان؟!

-٠٠٠

-المؤامرة عالمية. أشعلتها أمريكا والصهيونية العالمية والباقي يتفرج…

-مامن أحد يعرف جهنم التي نحن فيها؟

أستغرب، ماذا تفعل هذه الأم التي تنقّي حبات الدنان من الرز وهي تنحب بخفوت على ابنها الغائب منذ أيام في جبهة الشياح. تصرخ مثل مجنونة:

-نعم أناااا.

تصرخ كلما سمعت نداء من مدخل الملجأ. يتكاثر الداخلون إلى الملجأ فتتقلص مساحات الفراغ ونقّلص أجسادنا.

أنا بينهم أراقب واكتب في دفتر يومياتي.

-ماذا تكتب… تقارير صحفية؟

سألني العليم.

ــ...

سكتّ موافقاً بينما هو يمّلي عليَّ ما ينبغي أن أكتب:.

-قل لهم، هولاء القابعون على نفطهم، لبنان أخرجكم من خيام البداوة، وعلمكم السياسة، لبنان…

أسمعه وأنا ضجر. اكتب غير ما يمليه.عن حرب أخرى تحدث في مكان آخر. وقد زادت حروب العالم عن مائة وأربعين حرباً داخلية أو منطقية في فترة ما بعد الحرب الباردة. أكتب واسأل نفسي هل الحرب حادث طارئ في تاريخنا، أم هي شكل من أشكال العنف، منغرسة في الطبيعة البشرية وفي بنية الكائن. من ترسبات الحياة الحيوانية التي عاشها أجدادنا، مع فارق كبير، استبدلنا الهراوات الحجرية بالمدافع التي تقتل من بعيد، وبالجملة. إن لم يكن العنف سوى رد فعل أحمق يجابه به الإنسان ما يعتقد إنه مصدر الظلم الواقع عليه، هناك إذن أمل، ولو مثل خيط من الوهم، بامتصاصه ذات يوم. وإلا فعلينا أن نسلم و نتعايش مع الحروب مثل مرض لا شفاء منه.

عيناي تتنقلان بين بقع الضوء المبعثرة داخل الملجأ الذي اختلطت فيه الروائح الكريهة بالظلمة العكرة ومخاوف الناس. يعرف الجسد قبل العقل أن القذيفة ليس مجرد صوت مرعب. حين تنفجر ترسل شظاياها لأوسع مكان ممكن،تشق الفضاء وعي تصفر باحثة عن اللحم الآدمي لتغرز أسنانها فيه. ليست مجرد صوت مدوٍ…انظر حولي مع كل انفجار..هناك توافق غريب بين صوت الانفجار وحركات الناس في الملجأ. قبيل الانفجار بلحظات تتقلص الأجساد لتشغل أصغر حيز من الفراغ، توشك أن تتلاشى، ترتعد مع صوت الانفجار، وبانتظار الثاني يأتي الله، حتى لمن ينكرونه، كلاً على انفراد، غامضاً وأكيداً، في دعاء لن يقال، أو ياتي اسمه، مكررا، بصوت عال متوسل.بعد القذيفة تنفلت الحركات: نجوت.

أرى في الوجوه لمعة نحاس عتيق كما في لوحات رامبرانت. يأتي الضوء الباهت من داخل الشخصيات ولا يسقط عليهم من خارجهم. ضوء الحياة الباقية قبل ان تهدّها القذيفة. أنظر اليهم وأقول: ستنطفئ عما قليل.

بالقصف العشوائي تسكن القذيفة ملجأنا مثل موت مؤقت قد ينفجر في أية لحظة، تسكن خيالنا وصدورنا وتستدير الحياة كلها باتجاه واحد: كيف ننجو منها؟ وعندما يصبح القصف العشوائي شكل الحرب الأساسي، وربما شكلها الوحيد يضيق حيز البطولة كما يضيق حيز الحياة.الشكل الوحيد للبطولة هو أن نبقى أحياء.

فجأة انفتح ضوء كشّاف من باب الملجأ، سقط علينا لتوريطنا خجلاً من حالنا المزري هنا: وقف شاب بكامل عدته العسكرية و رشاشته تتقاطع أفقيا مع جسمه في وضع الرماية الغريزية وصاح باسم امه:

-رسّميييية!

طشرت رسمية الرز وهي تنهض إليه:

-نعم أنااااا!

كان هذا مقاتل الشياح. كلنا شاركنا أمه فرحها بكونه لا يزال حيّاً.

دخل الملجأ وهو يجرّ خلفه سحابة من رائحة البارود.ليس لديه الوقت ليرد على أسئلتنا: ماذا، كيف، أين؟ كان على عجل لأنه ترك المتراس في عز المعركة وجاء ليطمئن ويطمئن أمه ويعود. القتال وكثرة الشهداء شكل رابطة أخلاقية بينه وبين رفاق الخندق.

وهي لا تزال تتلمسه، سألتنا أمه:

-هل من عاقل بينكم يقنعه بالبقاء مع أمه:

-ما من فائدة!

كان هذا ردي، أو رد من معي؟ لم يدم الأمر إلا دقائق حتى تركنا مقاتل الشياح وهو يسحب معه غيمة البارود.

*****

تركت الملجأ دون أن أردّ على المتسائلين، تركت (العليم) وتقديراته لاستراتيجية، تركت البدلات الرجالية المصطفة على الجدران كأنها أفرغت من ناسها، تركت المرأة الساخطة التي سافر زوجها للخليج ووعد ولم يفِ بوعده، تركت الماء الذي ينضح و السقف الذي ينثّ التراب مع كل قذيفة. تركت بعد ان وجدت ملجأي الخاص. في سفرة الدرج عند انعطافة السلم بين جدارين وتحت عمود من الضوء ينزل من نافذة ضيقة بسطت فراشي وأوراقي والراديو وعلبة السكاير.

مع تصاعد القصف نزلت جارتي فوق عابرة بشبشبها فراشي. وضعت صينية القهوة وجلست على الدرجة قريبا منّي في هذا الحيز الضيق فغمرتني رائحة صابون عبقة. هي التي فتحت الحديث اعتذاراً عن خشونتها حين صعدت اليها وشكوت بكل أدب من كرة الأولاد التي تقرع رأسي على طول النهار مثل الانفجارات.

-مزاجي صار خرا من يوم ما سافر الكلب.

ـ...؟

-الشرموط جوزي!

ــ...

-بلا رسالة ولا مكالمة كأن الحرب حجة ليهرب من زوجته وأولاده.

لم أعلق، كنت أعرف موجة هجرة الرجال خلال الحرب. ثلاث شقق من عمارتنا غادرها ناسها، وأغلبهم رجال.

الكل يستحمون في قاع العمارة لأن الماء لا يصل الطوابق العليا، والكل يقفون في طابور طويل حاملين عدة الاستحمام. والكل يغادرون الحمام وهم قرفانين يشتمون الزمان النذل. النساء يخرجن والماء ما يزال يقطر من الشعر. يشتكين من أن الرجال يتركون شفرات الحلاقة المستعملة، و الرجال يشكون من أن البلاليع مغلقة بشعر النساء وساحت المياه حدّ أعلى القدم. جارتي من فوق، وهي في اربعيناتها سليطة اللسان، صعدت قرفانة تشتم الزمان النذل:

-كس أخت هيك عيشة.. مي الغسيل وسخ.

مع ذلك ملأت جردلا لتغتسل ثانية في شقتها.ساعدتها في إيصال الجردل. خلال دخولي السريع رأيت صورة زوجها وقد ارتدى للمزاح عقال وكوفية خليجية. نظرته وقحة كانه يتابع مؤخرة امرأة مرت أمامه.في طريقي لحمّامها مررت بغرفة النوم فعلقت عيني بسرير بلون الجنس، أحمر داكن. خلال خروجي القيت نظرة الى السرير وغادرت هاربا من دعوة ضمنية. فكرت بعذاب هذه الأربعينية وهي تنام وحدها على سرير كنغ سايز. تمدّ يدها وتعصر الفراغ وهي تستمني و تشتم زوجها الغائب. قبل أن أغلق باب شقتها سمعت جملة مستعجلة:

-ما تسكّر باب شقتك!

قالتها بلهجة آمرة وسريعة، فلم أملك الا طاعتها. تصاعد القصف بحيث صار دوياً متصلاً، مع ذلك نمت باختلاط الكحول والجهد العصبي. نمت وجسمي ينضح مسامير ناعمة.في اللحظات الغريبة الملتبسة بين النوم واليقظة فتحت صمغ النعاس من أجفاني ورأيت في الخلاط الملتبس شبح امرأة واقفة عند رأسي بملابس النوم التي تعصر ثدييها. واقفة بحيرة وهي تنتحب. بتلقائية السكران العافي رفعت الغطاء فاندسّت دون كلمات واطبقت علي ذراعان وساقنا مثل أذرع الاخطبوط…

القذائف تزحف بإصرار نحو منطقتنا.في حرب القذائف العشوائية لا يموت الأبطال المنذورون للحرب، إنما الهاربون منها. من حرصهم الملحّ على الحياة وهروبهم المضطرب من ويلات الحروب، يعرّضون انفسهم للشظايا التي تفرم الهواء باحثة عن اللحم الآدمي.

الصيدلي المهووس بتنظيم كل ما حوله رتب كل شيء للهروب إلى الجبل الآمن. عبأ في الحقائب بدقة بالغة كل ما يحتاجه هارب من بيته. ملابس لشتاء قريب، له ولزوجته و الأطفال، شفرات حلاقة ومعاجين أسنان، حبوب مهدئة، معلبات، لم ينس الراديو والمصباح اليدوي، فيتامينات وأجهزة لقياس الضغط والحرارة، البومات صور العائلة وجوازات السفر استعداداً للهروب من هذا البلد المنحوس. بين فترة واخرى وهو على عجل يتوقف ويسأل نفسه وزوجته: هل نسيت شيئاً؟… آه، المكواة و فتّاحة العلب… حشر الحقائب و عائلته في السيارة وهو يصرخ مربكاً نفسه وعائلته بحركات لا ضرورة لها غير تبديد الخوف. قبل ان يقلع تذكر: المفتاح؟! دخل البيت ليبحث على عجل، ولكن بما يكفي لكي يسمع الانفجار عند باب البيت. عندما خرج وهو يترنح من هزة الانفجار لم يجد ما يفتحه. ففي مكان السيارة تويج أسود يحترق.

كانت هذه صدفة، صدفة عمياء. رامي القذائف العشوائية لم يتقصده بالذات، لأنه محارب لاهٍ يجهل نتائج أفعاله.لا يحتاج الشجاعة أو البراعة، إنما عمى المخيّلة و صلابة القلب لرجل لا يعرف سوى التعامل مع الحديد. يطبّق خارطة الاحداثيات، وهي ورق، على لوحة التسديد، وأمامه في الوادي الذي يغيب تحت فوهة المدفع في غمامة تلغي التفاصيل الحيّة. لن يرى المدرسة الضّاجّة بصراخ الأطفال ومعلماتهم، ولا بحيرة الماء التي تعكس وجه الشيخ الذي يتوضأ، ولا العاشقة المتمنّعة في شرفة أمام عاشقها. في دخيلته الملبدة قد، أكرر قد، تمر صور: شظايا زجاج أفلت من نافذة وعكس وهو يتطاير صور الدمار الدي أحدثته قذيفته، نار الحريق الذي يلتهم السيارات على جانبيّ الشارع، سيارات اسعاف لا تتوقف وهي تروح وترجع ناقلة الجرحى الذين سيموتون في الطريق الى المستشفيات وقد هدَّ الجهد كادرها الطبي فناموا مع جرحاهم في الممر… ما هم ذلك؟ الحرب هي الحرب! المهم المساحة كما مثبتة في الاحداثيات. عليها سيركّز، بينما تتحرك يداه بين السبطانة وإبرة التفجير وانزلاق القذيفة… ثم، سيضيع كل شيء في عصف مدوّخ يطيّر الأوراق من أغصانها، والثياب من حبالها ويرجّ المكان والمخيلة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

قناطر: من وصايا أبي المحن البصري

العمودالثامن: إنهم يصفقون !!

 علي حسين كان الشاعر الزهاوي معروف بحبه للفكاهة والظرافة، وقد اعتاد أن يأخذ من زوجته صباح كل يوم نقوداً قبل أن يذهب إلى المقهى، ويحرص على أن تكون النقود "خردة" تضعها له الزوجة...
علي حسين

باليت المدى: على أريكة المتحف

 ستار كاووش ساعات النهار تمضي وسط قاعات متحف قصر الفنون في مدينة ليل، وأنا أتنقل بين اللوحات الملونة كمن يتنقل بين حدائق مليئة بالزهور، حتى وصلتُ الى صالة زاخرة بأعمال فناني القرن التاسع...
ستار كاووش

ماذا وراء التعجيل بإعلان " خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!!

د. كاظم المقدادي (3)ميزانية بائسةبعد جهود مضنية، دامت عامين، خصص مجلس الوزراء مبلغاً بائساً لتنفيذ البرنامج الوطني لإزالة التلوث الإشعاعي في عموم البلاد، وقال مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع في اَذار2023 إن وزارة...
د. كاظم المقدادي

السيستاني والقوائم الانتخابية.. ردٌ على افتراء

غالب حسن الشابندر منذ أن بدأت لعبة الديمقراطية في العراق بعد التغيير الحاصل سنة 2003 على يد قوات التحالف الدولي حيث أطيح بديكتاتورية صدام حسين ومكتب سماحة المرجع يؤكد مراراُ وتكراراً إن المرجع مع...
غالب حسن الشابندر
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram