اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > من يومياتي (3)

من يومياتي (3)

نشر في: 18 أكتوبر, 2023: 09:41 م

زهير الجزائري

الغازي والمخيم

الصورة هي ذاتها، تكاد لا تتغير على الرغم من اختلاف الأمكنة والزمان. الطرفان في الصورة يفصل بينهما خط مرسوم بأكوام الحجارة وهياكل السيارات والإطارات المحترقة فوق الأرض الحرام. إنه الخط الذي وصفه إسحاق شامير "الفاصل بين قوميتين".

عند هذا الخط تلتقي إرادتان متعارضتان تكللهما غيمة من دخان أسود ثقيل. كل إرادة تريد أن تصله أو تتجاوز الخط، وهي تدرك أن الموت ينتظرها مجسدا بالإرادة الأخرى. والزمن طوال فترة المجابهة متردد في المكان معلق على القيمة الاعتبارية للانتصار.

كبر الصبيان في جانب الصورة وغاب رفاق لهم تاركين صورا بأطر سوداء معلقة على جدران المخيم. ودخل إلى الساحة جيل جديد كان إلى الأمس يعيد تمثيل اللعبة في أزقة المخيم الخلفية. تغيرت الوجوه والأجيال في هذا الجانب، لكن صورتهم وحركاتهم،، على الرغم من اختلاف التفاصيل وزاوية النظر، بقيت كما هي: يركض الشبان باتجاه خط المجابهة وقد قوّسوا ظهورهم التشغل أصغر حيز من الفراغ اتقاء للرصاص الباحث عن لحمهم، ثم تمتد أجسادهم ليقفزوا خفافاً مودعين مع الحجر عقلهم وإرادتهم وقوة شبابهم ثم يعودون إلى المخيم عارفين دروبه ومخابئه وناسه.

الطرف الآخر من الآخر من الصورة بقي كما هو أيضا. فالجنود الإسرائيليون ينقذفون من مصفحاتهم فجأة في الساحة العارية، بخوذهم المسدلة على وجوههم والدروع التي تحميهم ورشاشاتهم المسددة على الحشد يبدون بلا أسماء ولا حياة خاصة، كأنما وجدوا في اللحظة الطارئة ولتنفيذ الفعل الوحيد: إطلاق النار على مدنيين.

على خلاف ابن المخيم الذي يخبئ المصورين والصحافيين في بيته، يترك المجند الإسرائيلي المعركة ويتقدم ليغلق العدسة بيده ليمنع تصوير وجهه: لا أحب أن تراني زوجتي وأولادي في هذا الموقع! هذه الصورة تريه ما لا يريد أن يراه، وهو أنه لبس خوذة جلاده وحمل سلاحه وأعاد تمثيل المشهد آخذا دور الآخر. الصورة تريه أن الأشياء التي كرهها طوال تاريخه قد حلت فيه: إنه المسلح الذي يطلق النار على ضحية عزلاء. ومشكلة هذا المجند هي أن المواجهة الحالية تختلف عن كل حروبه السابقة مع العرب. ففي كل تلك الحروب يأتي "العدو، أو يكمن خلف الحدود بطائراته ودباباته و فيالقه. ثمة نوع من التكافؤ في أدوات الدمار. لذلك يتماهى المجند مع إحساس الدفاع عن الوجود في مقابل عدو (يريد أن يلقيه في البحر). حتى الهجوم و التوسع والعدوان كان جواباً على الخوف من الفناء يسميه موشي دايان "الهجوم الوقائي". في كل تلك الحروب قدّم "العدو" نفسه التبرير الخلقي لمجند "جيش الدفاع الإسرائيلي".

اختلف الأمر تماماً في هذه المواجهة، فا ل"العدو"موجود هنا، على أرضه، حيث أقام الآباء في منازل الأجداد بلا انقطاع، في حين يتقدم الجنود الإسرائيليون إلى مكان غريب ينكرهم. لذلك يتحتم عليهم التصرف كغزاة. ينظرون للأرض التي يطأونها للمرة الأولى كمجال جغرافي بحت. حين تصادفهم الحياة ستكون معادية بالضرورة وتنطوي على احتمال موت. الحصار والتجويع يريدان جعل الحياة مستحيلة. مع ذلك ينبغي تعطيل هذه الحياة بإعلان منع التجول قبل الدخول. حين يدخلون فبخطوات حذرة من ملمس الأرض. الظهور لصق الحيطان التي لا حياة فيها، فهي إذن آمنة، والإصبع على الزناد، و الفوهة تتحرك باتجاه الأزقة والسطوح، حيث يمكن أن توجد حياة، مستعدة لتحويل كل ما يتحرك إلى شيء لا حياة فيه.

كل خطوة نحو المخيم هي خطوة انفصال ذاتي وموضوعي عن المكان الذي ينكرهم ويزيد غربتهم عن البيئة. هذا الانفصال يزيد مخاوفهم "من أية نافذة ستنقذف زجاجة حارقة؟ ومن أي سطح قد يسقط عليك حجر"؟، مامن وسيلة للخلاص من الخوف في الداخل إلا بدفعه إلى الخارج لأن تطمين الذات يتطلب تحول الخائف مخيفاً. لذلك يبدأ الغازي بتعريف نفسه عبر الضحية "أنا الذي أقتل!" فيطلق النار قبل أن يتقدم داخل المخيم، وقبل أن يقول كلمته. وإذا تكلم ستكون مفرداته محددة: لا تتحرك! إرفع يديك! ابتعد من هنا! افتح الباب! جمل قصيرة آمرة، لا تحاور ولا تسأل ولا تنتظر جواباً، إنما تسبق أو ترافق إطلاق النار.

اختيار الضحية سيكون عشوائياً. مراسل BBC سأل الناطق باسم وزارة الدفاع الإسرائيلية عن مقتل الطفل (محمد الدرة)، لم يعتذر الناطق، إنما أعاد السؤال: ماذا يفعل طفل في ساحة مواجهة؟ وسيلة الغازي في الدفاع عن ذنوبه هي إلقاء اللوم على الضحية، على الأطفال الذين خرجوا من بيوتهم فعرضوا أنفسهم للرصاص، على الآباء الذين يجلسون في البيوت تاركين أولادهم في ساحات المواجهة، على المنظمة التي لم تعتقل شعباً مشاغباً. القتل العشوائي ليس عقاباً على فعل محدد قام به شخص محدد، إنما هو عقاب على نيّة مفترضة، وهو فعل تحذير موجه لكل واحد، حتى وإن لم يأكل تفاحة الخطيئة: قد تكون الرصاصة القادمة من حصتك! ووفق مبدأ " الهجوم الوقائي لن يعود هناك خارجون عن القانون في المخيم الذي يدخله الغازي، انما تصبح الحياة بحد ذاتها شكلا من المخالفة أو العدوانية المضمرة، لذلك يكون الحصار ومنع التجول والعقاب جماعيا دون تمييز.

وبما أن الحياة في المخيم مستهدفة بذاتها، فإن مقاومة المخيم للغازي ستستند على الحياة وحق الحياة. و تبدأ المقاومة من التمسك بالمكان. ومع ذلك لم يغرقوا في أوهام البيت. أجدادهم الفلاحون كانوا يشاهدون بيت جار لهم ينسف او يصادر و يتصورونها حالة خاصة لا تعنيهم. لأبناء الجيل الذي نشأ في المخيم مع المنظمة والتنظيم يعني البيت الوطن.

قلت لبابا: هاي صورة مين؟

قال: لتكمل حتى تبين.

قلت: الريشة صارت عتيقة؟

قال لي: بقى لها زمان وسنين.

هالصورة صورة بلدي

اللي راح يكبر فيها ولدي

هلا عرفت الصورة لمين

هي صورة فلسطين؟

هكذا تتشكل صورة الوطن في تَنَقّل من المجاز الذهني إلى الملموس (البيت) ثم إلى المجاز العام (الوطن). البيت هو بيت الجماعة كلها وهو المخيم. المخيم نفسه يسهل الانتقال من الخاص إلى العام، فاقتحام الجنود يبدأ من لحظة وصولهم حافة المخيم. بعد اجتياز الخط المحدد بالإطارات والحجارة تصبح البيوت مباحة ومستباحة للغازي لأن غرف النوم تطل على الزقاق مباشرة ولا يفصلها عنه إلا أبواب واهية تفتح برفسة. وقد أدرك الأبناء منذ الطفولة معنى وواقع دخول الجنود. ففي تلك الغرف التي يحبس فيها الأطفال، كل ثمانية في غرفة واحدة، أثناء منع التجول، يتسمعون بقلوب وجلة ووجوه شاحبة إلى بساطير الجنود وهي تضرب أرض الزقاق، تقترب، تقترب، فيأمرهم الآباء بأن يكفوا عن الكلام لأن الجنود يعتبرون الضجيج احتمال مقاومة. وربما كان الهدف من منع التجول تفتيت الحياة الجماعية في المخيم إلى حيوات عائلية منطوية على مخاوف فردية.

عاش الأبناء الخوف من الاقتحام حتى ثمالته، حتى أن كلمة "اسرائيلي" تعني تلقائياً الجندي الذي يرفس الباب ويقتحم البيت في لحظات الغفلة و الهدوء النادرة. يبدأ بالصراخ بلا سبب مهدداً الجميع ببندقية محشوة جاهزة للاطلاق. يدوس فرش النوم ويزيح الغطاء عن زوجين في أكثر اللحظات خصوصية. يخلع أبواب الدواليب ويضرب الأب بأخمص البندقية غير عابئ بتوسل الزوجة وصراخ الأطفال. وبعد ذلك يأخذ الأب والأخ إلى حيث لن يعودوا.. هذه المشاهد المفزعة غرزت في أذهان الأطفال وفي أحلامهم اليومية. الدكتور (يورام بيلو) أستاذ علم النفس في الجامعة العبرية طلب من أطفال مخيم (قلنديا) أن يسجلوا أربعة أحلام رأوها قبل نهوضهم من النوم فوجد أن أغلبها يدور حول اقتحام الجنود الإسرائيليين للبيت: "حاصروا بيتنا واقتحموه، وسحبوا أخي وأخذوه إلى السجن وعذبوه، و اختبأنا أنا وأبي في خزانة الملابس حتى عاد الجنود ومعهم خائن وعثروا علينا". هذا الخوف يتكرر في النهار فتتقلص أجسام الأطفال حين تقترب السيارة من حاجز التفتيش عند هذه الحواجز ينزل الآباء و يؤمرون بخلع ملابسهم للتفتيش ويصطفون رافعين أيديهم فوق رؤوسهم ووجوههم إلى الحائط والفوهات مسددة نحوهم. من هذه الحواجز يؤخذ الآباء والأخوة إلى السجون.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

قناطر: من وصايا أبي المحن البصري

العمودالثامن: إنهم يصفقون !!

 علي حسين كان الشاعر الزهاوي معروف بحبه للفكاهة والظرافة، وقد اعتاد أن يأخذ من زوجته صباح كل يوم نقوداً قبل أن يذهب إلى المقهى، ويحرص على أن تكون النقود "خردة" تضعها له الزوجة...
علي حسين

باليت المدى: على أريكة المتحف

 ستار كاووش ساعات النهار تمضي وسط قاعات متحف قصر الفنون في مدينة ليل، وأنا أتنقل بين اللوحات الملونة كمن يتنقل بين حدائق مليئة بالزهور، حتى وصلتُ الى صالة زاخرة بأعمال فناني القرن التاسع...
ستار كاووش

ماذا وراء التعجيل بإعلان " خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!!

د. كاظم المقدادي (3)ميزانية بائسةبعد جهود مضنية، دامت عامين، خصص مجلس الوزراء مبلغاً بائساً لتنفيذ البرنامج الوطني لإزالة التلوث الإشعاعي في عموم البلاد، وقال مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع في اَذار2023 إن وزارة...
د. كاظم المقدادي

السيستاني والقوائم الانتخابية.. ردٌ على افتراء

غالب حسن الشابندر منذ أن بدأت لعبة الديمقراطية في العراق بعد التغيير الحاصل سنة 2003 على يد قوات التحالف الدولي حيث أطيح بديكتاتورية صدام حسين ومكتب سماحة المرجع يؤكد مراراُ وتكراراً إن المرجع مع...
غالب حسن الشابندر
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram