اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > من يومياتي 4

من يومياتي 4

نشر في: 23 أكتوبر, 2023: 09:29 م

زهير الجزائري

الخوف

الخوف كان المعلم الأول لهذا الصبي الذي يحمل الحجر. أول تمرين للتغلب على الخوف يبدأ في الأزقة الخلفية حيث يجتمع الأطفال في هيكل سيارة محطمة لينظموا الخطط. ثم يغادرون مكمنهم لينقسموا إلى فريقين:

فريق الجنود من لابسي الطناجر، و فريق الملثمين من رماة الحجارة. وفي أزقة المخيم الخلفية يمثلون لعبة الكبار ليتغلبوا على خوفهم قبل أن يكبروا. الخوف الذي علّم المحارب المحترف الدرع والخندق والمتراس سيعلم حامل الحجر في المخيم الخطوة العملية الأولى في المقاومة، أن يستغل كل مرونة جسده ليناور الرصاصة التي تتجه نحوه أو إعادة إلقاء قنبلة الغاز نحو راميها. وقد وجد أبناء هذا الجيل الذي ولد ونشأ في المخيم، أن أزقته الضيقة هي الخندق والدرع الذي يحتمي فيه الأعزل من غاز يملك السلاح، لكنه يجهل المكان. وترينا صورة المطاردة اليومية أن حافة المخيم هي حافة الأمان لحامل الحجر وحافة الموت للغازي. لذلك يكمل الرصاص المطاردة. بعد الخوف ومعه يبدأ السخط صامتاً، يأكل من نفسه ويغذيها. الجنود الإسرائيليون يرونه في العيون ويدرون أنه قد ينفجر في غفلة عنهم، لذلك يستفزون سكان المخيم لإخراجه للعلن. طابور العابرين الذاهبين إلى العمل أو المدرسة صباح كل يوم هو المكان الذي يصل فيه السخط ذروته صامتاً وهو يصك الأسنان، مدمّدماً أو مبرّبراً. في الحاجز يتعلم الجنود الإسرائيليون فنون الاستفزاز، وهم يتفرجون على عذاب الناس في الطابور بتعال وسخرية: يشحطون كلماتهم العربية القليلة: أسكت، قف، تقدم التالي...! سيتمادى الجنود حين يستعصي عليهم الصمت ويطلبون من الرجال أن يخلعوا ملابسهم في عرض الشارع. أمام السجن، وفي أيام المواجهة سيضربون أهالي المعتقلين. السخط يتحول إلى شماتة بالنفس لأنها أعجز من أن ترد، ولكنه الوقود الذي سيغذي أكثر الأعمال تطرفاً. حتى الذين يستنكرون السيارات المفخخة، سيبررون هذا الجنون في تلك اللحظات. وحين يمنعهم الجنود من دخول الجامع للصلاة سيتمنون لو كان الحزام الناسف مربوطاً الآن حول صدورهم في لحظات الغليان الموشكة على الانفجار. الأبناء الذين رأوا بما فيه الكفاية كيف يذل الآباء، حتى وهم صامتون يحولون السخط إلى مقاومة. ويملك أبناء هذا الجيل امتیازاً معنوياً على آبائهم واجدادهم، وهو إحساس بأنهم لم يذلوا على يد عدوهم وافلتوا، أصيبوا بالرصاص، اعتقلوا وبانهم لم يذلوا على يد عدوهم. طوردوا مراراً، ضربوا بالرصاص، اعتقلوا وعذبوا، لكنهم رغم ذلك لم يذلوا. وبهذا الاحساس يعتقدون، وهم يقذفون الحجر، أنهم قادرون على إعادة كرامة الآباء المهدورة.

في واحدة من أغانيهم يخاطبون الآباء:

يلله يا ختياريه

لا تقولوا القامة محنية

كل واحد يعطي مقدوره!

كل الأجيال السابقة إزاء جيل الانتفاضة مثقلة بالهزائم والأخطاء: الأجداد متهمون بأنهم تركوا الأرض وبددوا وقتاً (من 1948-1968) بانتظار الفرج من الأنظمة القومية الصرّاخة، أو من الجيوش العربية النظامية. الآباء متهمون بأنهم نقلوا أمراض الأنظمة الى الثورة و أغرقوها بالمكتبية المفسدة. إنهم الجيل الوحيد الذي لم يهزم ولم يكن شريكا في الأخطاء. وخلال المقاومة لا يتصدى هذا الجيل للاحتلال وحده، إنما أيضا للأجيال السابقة من القادة التقليديين من الوجهاء وشيوخ العشائر والرجال الروحيين الذين اعتادوا الوصول إلى حلول وسط. سلطات الاحتلال نفسها ستسفه موقف المهدئين فقد روت (جيهان عیسى) من بلدة بيت (ساحور) لمراسل Times)أ: "إنه الأمر مضحك فالناس هنا غاضبون من شقيقي لأنه ضد العنف ويريد أن يكون كل شيء بصورة مشروعة، ومع ذلك اعتقله الإسرائيليون!" أماني العقلاء تكشفت على خلفية تعصب غاز يفضل معاملة الآخر كقطاع بشري واحد مشبوه. المطاردات وقنابل الغاز كلها تضيّق موقع الشيوخ الوقورين محسوبي الخطوات في المظاهرات الحالية، ويحل محلهم الشبان الصداميون الملثمون الخفاف الحركة الذين يجمعون دهاء صبية الأزقة وأساليب المحاربين المحترفين في معارك الكر والفر: "لا يهمنا الوقت الذي يأتي فيه الجيش"، قال أسامة نجم (۲۳ سنة) لمراسلTimes، "ففي أي وقت يأتون نخرج ونبدأ بمواجهتهم".

وعندما تتحول المقاومة إلى حياة يومية على الحافة تتحول الحياة العادية الى مقاومة: فالعقل الجمعي والذكاء الشعبي سيجدان أساليب لا تحد لمواجهة الحصار والتجويع: تخزين الطعام وزراعة المساحات المتروكة. وخلال ذلك ستتراجع الكراهية العاجزة أمام المقاومة القائمة على النديّة: محارب في مواجهة محارب، مفاوض في مواجهة مفاوض، سلطة احتلال في مواجهة سلطة المخيم.

لم تتعلم سلطة المخيم السياسة من حكمة الأجداد، ولا من الكتب والنظريات المسبقة. قبل ذلك تعلمتها من المواجهة اليومية. هذه المعرفة الملموسة أعطتها قدرة التكيف حسب التوازن بين قواها وقوى العدو في لحظة محددة من الزمان. قد يكون التطرف والجزع الذي يتحول أفعالاً، بعضاً من ردود الفعل على عنف العدو، لكن الحياة اليومية المتوترة الغزيرة بالمفاجآت تعلم خبرة سنوات. وسلطة المخيم بسيطة خفيفة، بلا مكاتب ولا مراتب. المسافة بين القرار والتنفيذ عندها هي المسافة بين الرأس الذي يسدد واليد التي تقذف الحجر. ولذلك فهي قادرة على ما سماه محمود درويش "تكييف الإرادة الإنسانية مع شروط نشاطها". المفاوض والمقاتل يتكاملان دون تعارض ما دام هناك قاسم واضح وملموس للمفاوضين وللناس الذين يجري التفاوض باسمهم، وهو القضية التي تنعكس في أبسط تضاريس الحياة اليومية. وما دامت هذه القضية غير محلولة في بعدها الشامل، ستبقى أبسط متطلبات الحياة مثل العمل والخبز والجلوس على مقعد الدراسة أمرا طارئاً ومعطلا،. لذلك تبقى الصورة، على الرغم من كل المفاوضات، كما هي: جنود بخود حديدية يطلقون النار على المكان والزمان، يقابلهم شبان ملثمون يحاولون بالحجارة أن يفتحوا في الحصار ثغرة نحو الحياة، وبين الاثنين ركام من اشياء محترقة أو ميتة، وفوقهم فضاء مغلق بدخان أسود خانق.

غارة جوية

" النون".. هي آخر حرف كتبته ثم حدث الزلزال. دار الزمان على المكان والذاكرة على المتذكر.. دار الاسم على مسماه والصفة على الموصوف والفعل على فاعله.. دارت "النون" على نقطتها.. تركت القلـم و الـورقـة وحـدهـمـا فـي مواجهة الخراب وجئت إلى "كتيبة الناصرة" في "بئر حسن" مع الفصيل العراقي الذي توزع على المواقع.. أحاول من موقع الانتشار في حرش الصنوبر أن أنظم الكابوس في سياق من الزمن والكلمات:

أبدأ من الزمن الآخر الذي تلا "النون" فأسأل عن اسم الذي وقف على الشرفة وأعطاني قفاه وقال بتراخ وضجر:

- طيران!

ورأيت، أو دريت وأنا في مكاني، أن طائرة الظهيرة جاءت لتخط، كإبرة، على قماشة السماء الزرقاء خيطاً من السحاب.

أين ذهب القائل: "طيران". وكانت "النون" أشد الحروف و أوغلها في الزلزال. كيف عاد إلى طاولتي وأمسك قلمي؟ كيف؟.. لن أراه أبداً بعد الآن..

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

قناطر: من وصايا أبي المحن البصري

العمودالثامن: إنهم يصفقون !!

 علي حسين كان الشاعر الزهاوي معروف بحبه للفكاهة والظرافة، وقد اعتاد أن يأخذ من زوجته صباح كل يوم نقوداً قبل أن يذهب إلى المقهى، ويحرص على أن تكون النقود "خردة" تضعها له الزوجة...
علي حسين

باليت المدى: على أريكة المتحف

 ستار كاووش ساعات النهار تمضي وسط قاعات متحف قصر الفنون في مدينة ليل، وأنا أتنقل بين اللوحات الملونة كمن يتنقل بين حدائق مليئة بالزهور، حتى وصلتُ الى صالة زاخرة بأعمال فناني القرن التاسع...
ستار كاووش

ماذا وراء التعجيل بإعلان " خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!!

د. كاظم المقدادي (3)ميزانية بائسةبعد جهود مضنية، دامت عامين، خصص مجلس الوزراء مبلغاً بائساً لتنفيذ البرنامج الوطني لإزالة التلوث الإشعاعي في عموم البلاد، وقال مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع في اَذار2023 إن وزارة...
د. كاظم المقدادي

السيستاني والقوائم الانتخابية.. ردٌ على افتراء

غالب حسن الشابندر منذ أن بدأت لعبة الديمقراطية في العراق بعد التغيير الحاصل سنة 2003 على يد قوات التحالف الدولي حيث أطيح بديكتاتورية صدام حسين ومكتب سماحة المرجع يؤكد مراراُ وتكراراً إن المرجع مع...
غالب حسن الشابندر
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram