حيدر المحسن
لو فكّرنا بطبيعة التأليف الأدبي على أنه ليس عملا ذهنيا أو عضليّا يقوم به الكاتب، وإنما هو جزء من ذاته سوف يظهر للعيان، بعبارة أخرى عمل الفنّان هو إحدى صفاته، كالطول ولون البشرة والعينين،
أو مجموع هذه الصفات، أو خلاصتها، وبتعبير أوجز القصيدة هي الشّاعر والقصّة هي القاصّ، وبهذا المعنى امتلك فلوبير الشّجاعة لقول جملته الشّهيرة "أنا مدام بوفاري". إنّ تماهيا حقيقيا يحصل بين الاثنين، فينسى الجسد نفسه في اللغة المبثوثة، مثلما تنسى الزهرة ذاتها في رحيقها ولونها، فإذا تحقّق هذا الأمر انبثقت أنشودة الفن.
النظر إلى ما يأتينا به الكاتب على أنه من ضمن طبيعته العضويّة يسهّل علينا الأمر، فالفرق بين الكائن الحيّ والميّت واللاكائن لا يتطلّب منّا إعمال الفكر، نظرة واحدة تكفي لإنجاز المهمّة. إن ما نقرأه ويكون قريب منّا فهو يمثّلنا، وأنا أدعوها العِشرة التي تجمعنا مع الكاتب. ديوان الحماسة إذن يمثّل أبا تمّام مثلما يصوّره لنا شعره، وكذلك الحال مع كتاب "الأغاني" لأبي فرج الأصفهاني، وكان الرّجل يقضي حياته مرتحلا بين الدّيار، ومكتبته تنتقل معه محمّلة على ظهور الإبل، وفكّر أن يختصرها بمؤلّفٍ واحد يحمله بين متاعه، فجاء كتابه جامعا لمعظم أدب عصره.
الكتابة الأدبيّة تأليف موسيقيّ تبسطُ فيه الأنغامُ المعاني، فإن اضطربت الأولى فقرت الثّانية، وإن كتابا أعجبني يشبهُ امرأةً وقعتُ في حبّها، وإذا كنتُ أقرأ الكتب التي يطالها الآخرون جميعا، فلن أستطيع التفكير إلّا بالطريقة التي يفكّرون بها. إن نظرة منّا إلى المكتبات المليئة رفوفها بالكتب، والخالية في الوقت نفسه من الزائرين، ترفع لنا هذه الفكرة احتمال مجيء يوم يفوق فيه المؤلفون عددَ القرّاء.
بالنسبة إلى بورخيس: "المكتبة الجيّدة يمكن أن تبدأ بفكرة بسيطة هي ترك مؤلفات جين أوستن خارجها. كما أن أيّ مكتبة حتى إذا لم تحتوِ على أيّة كتب أخرى، فستظل مكتبة جيدة لأن مؤلّفات جين أوستن ليست فيها". عندما أنظر إلى مكتبتي، أشعر أحيانا بالزهْو لأنها لا تضمّ أسماء الكثير من الأدباء العراقيّين والخليجيّين والعرب، كما أنّ أيّ مكتبة، حتى إذا لم تحتوِ على أيّة كتب أخرى، تظلّ مكتبة عظيمة لأن كتب هؤلاء ليست فيها. وتصادف في أحد الرفوف مؤلّفات عديدة لكاتب أصدر أعمالا مهمّة في الماضي، لكنه الآن يثقلُ على الناس حملُ كتبه، فهو لم يترك فيها ولو شيئا صغيرا للقارئ يشدّ انتباهه، وقلّما سَلِمَ مكثارٌ، أو أُقيلَ له العِثار، كما يقول المثل.
"الكتاب الذي أقرأه هو الذي أعيد قراءته"، يقول ماركيز. أعدنا قراءةَ كتب صاحبنا القديمة مرّات، ولا نمضي مع مؤلفاته الجديدة أكثر من صفحات قليلة، وتعافها النفس، لأنها بلا طَعم ولا معنى. إنّ من خاطَ البدلةَ الجديدة خيّاطٌ موهومٌ، اختلط عنده المقياس فلا يبصر، واحتجّ عليه الزبون ولا يسمع. ما هو الأدب إن لم يكن القارئ، وصاحبنا بات لا يرى أحدا بسبب سَكرة الغرور التي مبعثها الشهرة الزائدة، قال عنها الجاحظ إنها أخطر غفلة تطرأ على المرء، ولا وازع يردع الأديب عنها غير التمسّك بأصول الصّنعة، فما أكثر الذين دُقّت أعناقهم بعد محاولة القفز إلى الوراء في الظلام، فلا يقومون بعدها أبدا. الخطأ في دنيا الفنّ يعني الجنون أو الانتحار، أو أسوأ من ذلك.
يحدثُ أني أجد نفسي بمعيّة كتاب اقتنيته أو أهديَ لي من تلك التي لا تهواها نفسي، وأسرع عندها بالتّخلّص منه بأن أضعه عند أقرب رصيف، كأني أترك زجاجة عصير فاسدة المحتوى. أن تُحيطُ نفسكَ بكتبٍ أثيرة لديك يعني أنك تعيش في جوّ من الإبداع الدّائم، وسوف ينتقل إليك حتما بواسطة أحد قوانين الفيزياء أو الكيمياء؛ التوصيل أو الحثّ أو الخلط والمزج والاتّحاد. من يدري، فربما صحّت في هذا الموضع نظريّة الحلول في كتب العقائد الصّوفيّة، وكان الصّوفيّون يؤمنون بإمكانيّة حلول الأشخاص في بعضهم البعض "كحلول ماء الورد في الورد" على حدّ تعبير الإمام الجرجاني.